للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

"هل رأيت أبا حنيفة؟ قال: نعم: رأيت رجلا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبا لقام بحجته"١.

٦- بلغ أبو حنيفة منزلة الإمام الأعظم, وكان الكثير من أهل عصره يجلونه ويكبرونه, مما أوغر عليه بعض الصدور, وهيج عليه بعض المشاعر. فالنفوس البشرية ليست معصومة من الغيرة, وحين يشتد التنافس لا عاصم من الزلل في القول أو الفعل إلا من رحم الله, فسما بنفسه وترفع بخلقه واستلهم نهج النبيين والصديقين، وقد قالوا: إن المعاصر لا يناصر. وعقد ابن البر بابا في حكم قول العلماء بعضهم في بعض، وآخر: في أنه لا يقبل قول بعض إلا ببينة، وذكر فيما ذكر قول ابن عباس: استمعوا علم العلماء ولا تصدقوا بعضهم على بعض, فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايرا من التيوس في زربها"٢.

٧- لقد كان أثر العوامل السابقة مجتمعة أن تناقل الناس أشياء عن أبي حنيفة منها ما لا ظل له من الحق, ومنها ما لم يفهمه الناس على حقيقته من طرائق أبي حنيفة في الاجتهاد، ولقد وصل ذلك إلى أسماع بعض العلماء البعيدين عنه كما بلغهم بعض آرائه التي خالفهم فيها دون أن يعرفوا مبرره في الخلاف مع اقتناعهم بترجيح أدلتهم وموافقة نظرهم للحق، وهنا يعبرون عن معارضتهم بعنف, وربما ينالون من الرجل أو ينتقصونه لعدم تبين الأمر, فإذا عرضوا الحق بدت لهم وجهة نظر الإمام ورأوا ما استند إليه سريعا ما يعدول عن رأيهم فيه فينصفونه بعد أن يروا من دقة رأيه وقوة دينه ما يحمله على الثناء عليه وامتداح رأيه.


١ تاريخ بغداد ج١٣، ص٣٣٨.
٢ جامع بيان العلم وفضله ج٢، ص١٥١, وانظر الكلام في البابين ص١٥٠-١٦١.

<<  <   >  >>