وقد عُلم مما تقدم أن المضطر إذا وجد من يطعمه ويسقيه لم يحل له الإمتناع من الأكل والشرب ولا العدول إلى الميتة، إلا إن خاف أن يسمه فيه، أو يكون الطعام الذي يأكله مما يضره.
وعلم منه أيضا: أنه إذا اشتدت المخمصة في سنة المجاعة وكان عند بعض الناس قدر كفايته وكفاية عياله فقط لم يلزمه بذل شيء للمضطرين، وليس لهم أخذه منه كرهاً؛ لأن ذلك يُفضي إلى وقوع الضرورة به من غير أن تندفع عن المضطرين. وكذلك إن كان في سفر ومعه قدر كفايته من غير فضلة، فإنه لا يلزمه دفع ما معه للمضطرين.
قال في "شرح المقنع": ولم يفرق أصحابنا بين هذه الحال وبين كونه لا يتضرر بدفع ما معه إليهم في أن ذلك واجب عليه لكونه غير مضطر في الحال والآخر مضطر. فوجب تقديم حاجة المضطر.
ولنا: أن هذا مفض إلى هلاك نفسه وعياله. فلم يلزمه؛ كما لو أمكنه إنجاء الغريق بتغريق نفسه.
ولأن في بذله إلقاء بيده إلى التهلكة. وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن ذلك. انتهى.
(ومن اضطر إلى نفع مال الغير، مع بقاء عينه) إما لدفع برد كالثياب، وكل ما يتدثر به، والمقدحة ونحوها، أو استقاء ماء؛ كالدلو والحبل ونحو ذلك:(وجب بذله) لمن اضطر إليه (مجاناً) في الأصح أي: من غير عوض عن انتفاع المضطر في الأصح؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذم على منعه مطلقا بقوله سبحانه وتعالى:{وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}[الماعون: ٧] وما لا يجب بذله لا يذم على منعه، وما وجب فعله لا يتوقف على بذل العوض بخلاف الأعيان، فإنه لما كان لربها منعها بدون بذل العوض لم يكن مذموماً على منعها.
ومحل وجوب بذل المَاعون على ربه:(مع عدم حاجته) أي: حاجة رب الماعون (إليه) لأنه مع حاجته إلى ماعونه أحق به من غيره.