للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: ١٥٧] أَيْ: لَا مُفْلِحَ إِلَّا هُمْ، فَالْهُدَى وَالْفَلَاحُ دَائِرٌ حَوْلَ رَبْعِ الرِّسَالَةِ وُجُودًا وَعَدَمًا، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - فِي قَاعِدَةِ وُجُوبِ الِاعْتِصَامِ بِالرِّسَالَةِ: وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ مِنَ السَّمَاءِ، وَبُعِثَتْ بِهِ جَمِيعُ الرُّسُلِ الْمُرْسَلَةِ. وَقَالَ: الرِّسَالَةُ ضَرُورِيَّةٌ فِي صَلَاحِ الْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا صَلَاحَ فِي آخِرَتِهِ إِلَّا بِاتِّبَاعِ الرِّسَالَةِ، فَكَذَلِكَ لَا صَلَاحَ لَهُ فِي مَعَاشِهِ وَدُنْيَاهُ إِلَّا بِاتِّبَاعِ الرِّسَالَةِ، فَالْإِنْسَانُ مُضْطَرٌّ إِلَى الشَّرْعِ، فَإِنَّهُ بَيْنَ حَرَكَتَيْنِ حَرَكَةٍ يَجْلِبُ بِهَا مَا يَنْفَعُهُ، وَحَرَكَةٍ يَدْفَعُ بِهَا مَا يَضُرُّهُ، وَالشَّرْعُ هُوَ النُّورُ الَّذِي يُبَيِّنُ مَا يَنْفَعُهُ وَمَا يَضُرُّهُ، فَهُوَ نُورُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، وَعَدْلُهُ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَحِصْنُهُ الَّذِي مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالشَّرْعِ التَّمْيِيزَ بَيْنَ النَّافِعِ وَالضَّارِّ بِالْحِسِّ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ لِلْحَيَوَانَاتِ الْعُجْمِ، فَإِنَّ الْحِمَارَ وَالْجَمَلَ يُفَرِّقُ وَيُمَيِّزُ بَيْنَ الشَّعِيرِ وَالتُّرَابِ، بَلِ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَضُرُّ فَاعِلَهَا فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، وَالْأَفْعَالِ الَّتِي تَنْفَعُهُ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، كَنَفْعِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالْبِرِّ وَالصِّدْقِ وَالْإِحْسَانِ وَالْأَمَانَةِ وَالْعِفَّةِ وَالشَّجَاعَةِ وَالْعِلْمِ وَالصَّبْرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْجِيرَانِ وَالْمَمَالِيكِ وَأَدَاءِ الْحُقُوقِ وَإِخْلَاصِ الْعَمَلِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَالرِّضَا بِمَوَاقِعِ أَقْدَارِهِ وَالتَّسْلِيمِ لِحُكْمِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرُوا بِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ نَفْعٌ وَصَلَاحٌ لِلْعَبْدِ فِي دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، وَلَوْلَا الرِّسَالَةُ لَمْ يَهْتَدِ الْعَقْلُ إِلَى تَفَاصِيلِ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ فِي الْمَعَاشِ، فَمِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَأَشْرَفِ مِنَّةٍ عَلَيْهِمْ أَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كُتُبَهُ، وَبَيَّنَ لَهُمُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ الْأَنْعَامِ وَأَشَرَّ حَالًا مِنْهَا، فَمَنْ قَبِلَ رِسَالَةَ اللَّهِ وَاسْتَقَامَ عَلَيْهَا فَهُوَ مِنْ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ، وَمَنْ رَدَّهَا وَخَرَجَ عَنْهَا فَهُوَ مِنْ شَرِّ الْبَرِيَّةِ وَأَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، وَأَحْقَرُ مِنْ كُلِّ حَقِيرٍ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِنَا يَتْلُو عَلَيْنَا آيَاتِهِ وَيُزَكِّينَا وَيُعَلِّمُنَا الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كُنَّا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَلَا بَقَاءَ لِأَهْلِ الْأَرْضِ مَا دَامَتْ آثَارُ الرِّسَالَةِ مَوْجُودَةً فِيهِمْ.

<<  <  ج: ص:  >  >>