فَإِذَا دَرَسَتْ آثَارُ الرُّسُلِ مِنَ الْأَرْضِ، وَانْمَحَتْ مَعَالِمُ هُدَاهُمْ أَخْرَبَ اللَّهُ الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ وَالسُّفْلِيَّ وَأَقَامَ الْقِيَامَةَ، وَلَيْسَتْ حَاجَةُ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَى الرَّسُولِ كَحَاجَتِهِمْ إِلَى الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالرِّيَاحِ وَالْمَطَرِ، وَلَا كَحَاجَةِ الْإِنْسَانِ إِلَى حَيَاتِهِ، وَلَا كَحَاجَةِ الْعَيْنِ إِلَى ضَوْئِهَا وَالْجِسْمِ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَشَدُّ حَاجَةً مِنْ كُلِّ مَا يَقْدِرُ وَيَخْطُرُ بِالْبَالِ، فَالرُّسُلُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَسَائِطُ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَهُمُ السُّفَرَاءُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ، وَكَانَ خَاتَمَهُمْ وَسَيِّدَهُمْ وَأَكْرَمَهُمْ عَلَى رَبِّهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِ {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: ١٠٧] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ» ".
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي قَاعِدَةِ وُجُوبِ الِاعْتِصَامِ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ: وَهَذَا الْمَقْتُ كَانَ لِعَدَمِ هِدَايَتِهِمْ بِالرُّسُلِ، فَرَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ هَذَا الْمَقْتَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَعَثَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَمَحَجَّةً لِلْمَسَاكِينِ، وَحُجَّةً عَلَى الْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ، وَافْتَرَضَ عَلَى الْعِبَادِ طَاعَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ وَتَوْقِيرَهُ وَتَعْزِيزَهُ، وَالْقِيَامَ بِأَدَاءِ حُقُوقِهِ، وَسَدَّ إِلَيْهِ جَمِيعَ الطُّرُقِ فَلَمْ يَفْتَحْ لِأَحَدٍ إِلَّا مِنْ طَرِيقِهِ، وَأَخَذَ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَاتِّبَاعِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوهَا عَلَى مَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَرْسَلَهُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، فَخَتَمَ بِهِ الرِّسَالَةَ، وَهَدَى بِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَعَلَّمَ بِهِ مِنَ الْجَهَالَةِ، وَفَتَحَ بِرِسَالَتِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا، فَأَشْرَقَتْ بِرِسَالَتِهِ الْأَرْضُ بَعْدَ ظُلُمَاتِهَا، وَتَأَلَّفَتْ بِهَا الْقُلُوبُ بَعْدَ شَتَاتِهَا، فَأَقَامَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ، وَأَوْضَحَ بِهِ الْمَحَجَّةَ الْبَيْضَاءَ، وَشَرَحَ لَهُ صَدْرَهُ وَوَضَعَ عَنْهُ وِزْرَهُ، وَرَفَعَ لَهُ ذِكْرَهُ، وَجَعَلَ الذِّلَّةَ وَالصَّغَارَ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ، أَرْسَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَدُرُوسٍ مِنَ الْكُتُبِ، حِينَ حُرِّفَ الْكَلِمُ، وَبُدِّلَتِ الشَّرَائِعُ، وَاسْتَنَدَ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى ظُلَمِ آرَائِهِمْ، وَحَكَمُوا عَلَى اللَّهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ بِمَقَالَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَأَهْوَائِهِمُ النَّادَّةِ، فَهَدَى اللَّهُ بِهِ الْخَلَائِقَ، وَأَوْضَحَ بِهِ الطَّرَائِقَ، وَأَخْرَجَ النَّاسَ بِهِ مِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute