ومن أدل دليل على عظيم منزلته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صنيعه في المؤاخاة كما تقدم، فإنه -صلى الله عليه وسلم- جعل يضم الشكل إلى الشكل يؤلف بينهما إلى أن آخى بين أبي بكر وعمر، وادخر عليا لنفسه وخصه بذلك، فيا لها من مفخرة وفضيلة!!
وقد روي أن معاوية قال لضرار الصدائي: صف لي عليا, فقال: اعفني يا أمير المؤمنين قال: لتصفنه, قال: أما إذ لا بد من وصفه، كان والله بعيد المدى شديد القوى، يقول فصلا ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه, يستوحش من الدنيا وزهرتها ويأنس إلى الليل ووحشته, وكان غزير العبرة طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعان ما خشن، كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظم أهل الدين ويقرب المساكين ولا يطمع القوي في باطه ولا ييأس الضعيف من عدله؛ وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه -وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه- قابضًا على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين ويقول: يا دنيا غري غيري، إلي تعرضت أم إلي تشوقت? هيهات! هيهات! قد طلقتك ثلاثًا لا رجعة فيها فعمرك قصير وخطرك قليل, آه آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق!
فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا حسن، كان والله كذلك؛ فيكف حزنك عليه يا ضرار? قال: حزن من ذبح واحدها في حجرها. أخرجه الدولابي وأبو عمر وصاحب الصفوة.
وعن الحسن بن أبي الحسن -وقد سئل عن علي بن أبي طالب- قال: كان علي والله سهمًا صائبًا من مرامي الله على عدوه، ورباني هذه الأمة وذا فضلها، وذا سابقتها، وذا قرابتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن بالنومة عن