مُتَقَدِّمِي أَهْلِ الْبُلْدَانِ فِي الْفِقْهِ مَعْنًى هَذَا الْقَوْلُ لَا يُخَالِفُهُ وَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْأَصْلِ: إنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الرِّجَالِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ حَدِيثَهُمْ وَلَا يُثْبِتُونَهُ فِي التَّأْوِيلِ فَقُلْتُ لَهُ هَلْ يَعْدُو حَدِيثُ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ حَدَّثَ عَنْهُ لَا يُخَالِفُهُ غَيْرُهُ أَنْ يَثْبُتَ مِنْ جِهَةِ صِدْقِهِ وَحِفْظِهِ كَمَا يَثْبُتُ عِنْدَك عَدْلُ الشَّاهِدِ بِعَدْلِهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ عَلَى مَا شَهِدَ عَلَيْهِ إلَّا عَدْلُ نَفْسِهِ أَوْ لَا يَثْبُتُ قَالَ لَا يَعْدُو هَذَا قُلْتُ فَإِذَا ثَبَتَ حَدِيثُهُ مَرَّةً لَمْ يَجُزْ أَنْ نَطْرَحَهُ أُخْرَى بِحَالٍ أَبَدًا إلَّا بِمَا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِهِ أَوْ غَلَطٍ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَعْدُو فِي طَرْحِهِ فِيمَا يُثْبِتُهُ فِي مِثْلِهِ أَنْ يُخْطِئَ فِي الطَّرْحِ أَوْ التَّثْبِيتِ قَالَ لَا يَجُوزُ غَيْرُ هَذَا أَبَدًا وَهَذَا الْعَدْلُ قُلْتُ وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ فَوْقَهُ مِمَّنْ فِي الْحَدِيثِ لِأَنَّك تَحْتَاجُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَى صِدْقٍ وَحِفْظٍ قَالَ: أَجَلْ فَقُلْتُ وَهَكَذَا تَصْنَعُ فِي الشُّهُودِ وَلَا تَقْبَلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ فِي شَيْءٍ وَتَرُدُّهَا فِي مِثْلِهِ؟.
قَالَ: أَجَلْ وَقُلْت لَهُ: لَوْ صِرْتَ إلَى غَيْرِ هَذَا قَالَ لَك مَنْ خَالَفَك مَذْهَبُهُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ إذَا جَازَ لَك رَدُّ حَدِيثٍ وَاحِدٍ وَسَمَّى رَجُلًا وَرِجَالًا فَوْقَهُ بِلَا حُجَّةٍ فِي رَدِّهِ جَازَ لِي رَدُّ جَمِيعِ حَدِيثِهِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ بِصِدْقِهِ أَوْ تُهْمَتِهِ بِلَا دَلَالَةٍ فِي وَاحِدٍ الْحُجَّةُ فِي جَمِيعِ حَدِيثِهِ مَا لَمْ يَخْتَلِفْ حَالُهُ فِي حَدِيثِهِ وَاخْتِلَافُهَا أَنْ يُحَدِّثَ مَرَّةً مَا لَا مُخَالِفَ لَهُ فِيهِ وَمَرَّةً مَالَهُ فِيهِ مُخَالِفٌ فَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا اخْتَلَفَتْ حَالُهُ فِي حَدِيثِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ لَهُ مِمَّنْ هُوَ فِي مِثْلِ حَالِهِ فِي حَدِيثِهِ كَمَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الشُّهُودِ وَيُقْضَى بِمَا شَهِدُوا بِهِ عَلَى الْكَمَالِ فَإِذَا خَالَفَهُمْ غَيْرُهُمْ حَالَ الْحُكْمِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ لَهُمْ عَنْهُ إذَا كَانُوا شَهِدُوا غَيْرَ مُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي الشَّهَادَةِ.
فَقَالَ مَنْ قُلْت لَهُ هَذَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا هَكَذَا وَقُلْت لِبَعْضِهِمْ وَلَوْ جَازَ لَك غَيْرُ مَا وَصَفْت جَازَ لِغَيْرِكَ عَلَيْك أَنْ يَقُولَ: أَجْعَلُ نَفْسِي بِالْخِيَارِ فَأَرُدُّ مِنْ حَدِيثِهِ مَا قَبِلْتَ وَأَقْبَلُ مِنْ حَدِيثِهِ مَا رَدَدْتَ بِلَا اخْتِلَافٍ لِحَالِهِ فِي حَدِيثِهِ وَأَسْلُكُ فِي رَدِّهَا طَرِيقَكَ فَيَكُونُ لِي رَدُّهَا كُلِّهَا لِأَنَّهُ قَدْ رَدَدْت مِنْهَا مَا شِئْتَ فَشِئْتَ أَنَا رَدَّهَا كُلَّهَا وَطَلَبَ الْعِلْمِ مِنْ غَيْرِ الْحَدِيثِ ثُمَّ اعْتَلَّ فِيهَا بِمَعْنَى عِلَّتِك ثُمَّ لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْك قَالَ مَا يَجُوزُ هَذَا لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ وَمَا الْقَوْلُ فِيهِ إلَّا أَنْ يُقْبَلَ حَدِيثُهُمْ كَمَا وَصَفْت أَوْ لَا مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُخَالِفٌ أَوْ يَخْتَلِفُ حَالُهُمْ فِيهِ وَقُلْتُ لَهُ: وَالْحُجَّةُ عَلَى مَنْ تَأَوَّلَ بِلَا دَلَالَةٍ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِمَا وَعُمُومِهِمَا وَإِنْ احْتَمَلَا الْحُجَّةَ لَك عَلَى مَنْ خَالَفَ مَذْهَبَك فِي تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ فَقَالَ مَا سَمِعْنَا مِنْهُمْ أَحَدًا تَأَوَّلَ شَيْئًا إلَّا عَلَى مَا يَحْتَمِلُهُ احْتِمَالًا جَائِزًا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ عَلَى غَيْرِ مَا تَأَوَّلَهُ عَلَيْهِ لِسِعَةِ لِسَانِ الْعَرَبِ وَبِذَلِكَ صَارَ مَنْ صَارَ مِنْهُمْ إلَى اسْتِحْلَالِ مَا كَرِهْنَا نَحْنُ وَأَنْتَ اسْتِحْلَالَهُ وَجَهِلَ مَا كَرِهْنَا لَهُمْ جَهْلَهُ قَالَ أَجَلْ وَقُلْت لَهُ قَدْ رَوَيْنَا وَرَوَيْت أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ أَمَرَ امْرَأَةً أَنْ تَحُجَّ عَنْ أَبِيهَا وَرَجُلًا أَنْ يَحُجَّ عَنْ أَبِيهِ» فَقُلْنَا نَحْنُ وَأَنْتَ بِهِ وَقُلْنَا نَحْنُ وَأَنْتَ مَعًا لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ فَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ لَا يَحُجُّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ أَفَرَأَيْتَ إنْ احْتَجَّ لَهُ أَحَدٌ مِمَّنْ خَالَفَنَا فِيهِ، فَقَالَ الْحَجُّ عَمَلٌ عَلَى الْبَدَنِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَهُ الْمَرْءُ إلَّا عَنْ نَفْسِهِ وَتَأَوَّلَ قَوْلَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} وَتَأَوَّلَ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.
وَقَالَ السَّعْيُ الْعَمَلُ وَالْمَحْجُوجُ عَنْهُ غَيْرُ عَامِلٍ فَهَلْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّ الَّذِي رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ مِمَّنْ يُثْبِتُ أَهْلُ الْحَدِيثِ حَدِيثَهُ وَأَنَّ اللَّهَ فَرَضَ طَاعَةَ رَسُولِهِ وَأَنْ لَيْسَ لِأَحَدٍ خِلَافُهُ وَلَا التَّأَوُّلُ مَعَهُ لِأَنَّهُ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ الْكِتَابَ الْمُبِينَ عَنْ اللَّهِ مَعْنَاهُ وَأَنَّ اللَّهَ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ - يُعْطِي خَلْقَهُ بِفَضْلِهِ مَا لَيْسَ لَهُمْ وَأَنْ لَيْسَ فِي أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ لَوْ قَالَ بِخِلَافِهِ حُجَّةٌ، وَأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ لَوْ عَلِمَ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ اتِّبَاعَهُ قَالَ هَذِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ قُلْت وَرَوَيْنَا وَرَوَيْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَهِيَ لِلَّذِي يُعْطَاهَا» فَأَخَذْنَا نَحْنُ وَأَنْتَ بِهِ وَخَالَفْنَا بَعْضَ أَهْلِ نَاحِيَتِنَا أَفَرَأَيْتَ إنْ احْتَجَّ لَهُ أَحَدٌ، فَقَالَ قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ فَلَا يُؤْخَذُ مَالُ رَجُلٍ إلَّا بِمَا شَرَطَ أَهْلُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ» إلَّا أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ كَانَ قَالَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ جُمْلَةً فَلَا يُرَدُّ بِالْجُمْلَةِ نَصُّ خَبَرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ فَلَا تَرُدُّ الْجُمْلَةُ نَصَّ خَبَرٍ يَخْرُجُ مِنْ الْجُمْلَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute