للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>

إلى أن الخلاف المذكور في اقتضاء النهي الفساد أو الصحة، المراد بالصحة فيه: الصحة الشرعية، لا الصحة العادية، كأنه يشير بهذا إلى قول القرافي ـ رحمهما الله سبحانه وتعالى ـ في شرح التنقيح:

قاعدة: الصحة ثلاثة أقسام:

صحة عقلية، وهي إمكان الشيء، وقبوله للوجود والعدم في نظر العقل، كإمكان العالم والأجسام والأعراض.

وصحة عادية، كالمشي أماما ويمينا وشمالا، دون الصعود في الهواء.

وصحة شرعية، وهي الإذن الشرعي في جواز الإقدام على الفعل، وهو يشمل الأحكام الشرعية إلا التحريم، فلا إذن فيه، والأربعة الباقية فيها الإذن.

إذا تقررت هذه القاعدة، فالنزاع مع الحنفية إنما هو في الصحة الشرعية، وهي الإذن في جواز الإقدام على الفعل، واستدلوا بحديث الأعمى والمقعد، وذلك إنما يوجب اشتراط الصحة العادية، وهي مجمع عليها، اتفق الناس على أنه ليس في الشريعة منهي عنه، ولا مأمور به، ولا مشروع على الإطلاق، إلا وفيه الصحة العادية، وكذلك حصل الاتفاق أيضا على أن اللغة لم يقع فيها طلب وجود ولا عدم، إلا في ما يصح عادة، وإن جوزنا تكليف ما لا يطاق، فذلك بحسب ما يجوز على الله ـ سبحانه وتعالى ـ لا بحسب ما يجوز في اللغة، فاللغات موضع إجماع، فعلى هذا دليلهم لا يمس صورة النزاع.

قال الإمام فخر الدين - رحمه الله سبحانه وتعالى -: سلمنا أن دليلكم يدل على الصحة الشرعية، لكن تلك الصحة متقدمة على النهي لا متأخرة عنه، وتقرير ذلك أن الموكل إذا عزل وكيله بقوله: لا تبع هذه السلعة التي وكلتك على بيعها، فيكون هذا النهي عزلا له، ونسخا لتلك الصحة السابقة، وكذلك الخلائق وكلاء الله ـ سبحانه وتعالى ـ في أرضه، لقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) وقوله سبحانه وتعالى جل من قائل: (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) وإذا ورد النهي بعد ذلك عليهم كان ناسخا لتلك الصحة السابقة، وأنتم تطلقون على أنه يدل على صحة لاحقة، حتى تثبتون الملك في عقود الربا، بناء على النهي اهـ

<<  <  ج: ص:  >  >>