للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: ٣١] أي ثِيابَكُم لِمواراةِ عَوْراتِكُم عِندَ طوافٍ أوْ صَلاةٍ. وسَبَبُ النُّزول: أنَّه كانَ أُناس مِن الأعرابِ يَطوفونَ بِالبيتِ عُراةً، حَتّىَ أنْ كانتِ المَرْأةُ لَتَطوفُ بِالبيتِ وهِيَ عُريانة، فَتُعَلِّق على سُفْلِها سُيورًا مِثلَ هذهِ السُّيورِ التي تكونُ على وجْهِ الحُمْرِ من الذُّبابِ، وهي تَقولُ:

اليَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ ... وَمَا بَدا مِنْهُ فَلاَ أُحِلُّهْ

فَأنْزَلَ الله تَعالى هذهِ الآية: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [الأعراف: ٣١] قال الكَلْبِيُّ: كان أهلُ الجاهِلِيَّة لا يَأكُلونَ مِنَ الطَّعامِ إلا قُوتًا، ولا يأكلونَ دَسمًا في أيَّام حَجِّهم، يُعَظِّمونَ بذلِكَ حَجَّهم، فقالَ المُسلِمونَ: يَا رَسُولَ الله، نَحْن أحَقُّ بِذلِكَ، فَأنْزَلَ الله تَعالىَ الآية.

وَفِيْهِ يَظْهَرُ وجهُ ذِكْرِ الأكْلِ والشُّرْبِ هُنا. {وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: ٣١] بِتَحْريمِ الحلالِ، كما هو المُناسِبُ لِسَبَبِ النُّزولِ، {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: ٣١] بَلْ يُبْغِضُهُمْ، وَلاَ يَرْضى أفْعالَهُمْ.

{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: ٣٢] مِنَ الثِّيابِ وكل ما يتجمل به وخلقه لنفعهم من الثياب كالقُطْنِ والكِتَّانِ والحَيوانِ كالحَريرِ والصُّوفِ {وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: ٣٢] أيْ: المُسْتَلَذَّاتِ - وقيلَ المُحَلَّلات- ومِنَ المَآكِلِ والمَشارِبِ كَلَحْمِ الشَّاةِ وَشَحْمِهَا وَلبَنِها {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الأعراف: ٣٢] أيْ هي لَهُم بالأصالَة لِمَزيدِ كَرَامَتِهِمْ على الله تعالى والكَفَرَةُ وإنْ شارَكوهُم فيها فبِالتبعِ، فَلاَ إشْكالَ في الاخْتِصاصِ {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: ٣٢] أيْ: لا يُشارِكُهم فيها غَيْرُهُم {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: ٣٢] أي: مِثْل تَفْصيلِنا هذا الحُكْمَ، نُفَصِّلُ سائِرَ الأحكامِ لِمَنْ يَعْلَمُ ما في تَضامينها مِنَ المَعاني الرَّائِقَةِ {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} [الأعراف: ٣٣] أيْ ما تَزايَدَ قُبْحُهُ مِنَ المَعاصي، ومِنهُ ما يَتَعَلَّقُ بِالفُروج، {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: ٣٣] بَدَل مِنَ الفَواحِشِ، أيْ جَهْرَها وَسرَّها. وعَنِ البَعْضِ: "مَا ظَهَرَ" الزِّنا عَلانِيةً، "وَمَا بَطَنَ" الزِّنا سِرًّا وَكانوا يَكْرَهونَ الأوَّلَ، ويَفْعَلونَ الثَّانيَ، فنهوا عَن ذلِكَ مُطْلَقًا.

وعن مُجاهِدٍ: "مَا ظَهَرَ" التَّعَرِّي في الطَّوافِ، "وَمَا بَطَنَ" الزِّنا. والبَعْضُ يَقولُ: الأوَّلُ طَوافُ الرِّجالِ بالنَّهارِ، والثَّاَني طوافُ النِّساءِ بالليلِ عارِياتٍ. {وَالْإِثْمَ} [الأعراف: ٣٣] أي: ما يُوجِب الإِثمَ، وأصله الذَّمّ، ثُمَّ أُطْلِق على ما يوجِبَه مِن مطلَقِ الذَّنْبِ، وَذُكِرَ لِلتَعميمِ بَعْدَ التَّخْصيصِ بِناءً على ما تَقَدَّم مِن معْنى الفَواحِشِ.

ومِنهم مَن قالَ: إِنَّ الإِثمَ هو الخَمْرُ، وَعَلَيْهِ أهلُ اللغَة، وَأنْشَدوا لَه قَولَ الشَّاعِرِ:

نَهانا رَسول الله أنْ نَقْرَبَ الزِّنى ... وَأَنْ نَشْرَبَ الإِثْمَ الذي يوجِبُ الوِزْرا

وَقَولَ الآخَرِ:

شَرِبتُ الإِثْمَ حَتى ضلَّ عَقْلِي ... كذلكَ الإِثمُ يَذْهَبُ بِالعُقولِ

{وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: ٣٣] وهو الظلم والاستطالة على الناس، وأفرد بالذكر بناء على التعميم فيما قبله، أو دخوله في الفواحش للمبالغة في الزجر عنه {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: ٣٣] بالإلحاد في صفاته والافتراء عليه كقولهم [الأعراف: ٢٨] {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: ٢٨] ولا يخفى أن متصوفة زماننا على هذه الخصلة الجاهلية: فقد حرموا على أنفسهم زينة الله والطيبات من الرزق ليعتقد الناس صلاحهم، وابتدعوا الخلوات والرياضات وغير ذلك من شعائرهم في المأكل والملبس وسائر شئونهم، وما دروا أنهم بذلك من القوم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.

[الإلحاد في أسماء الله سبحانه وصفاته]

الإلحاد في أسماء الله سبحانه وصفاته (التاسعة والعشرون) : الإِلْحادُ في أسْمائِهِ وصِفاتِهِ، قالَ سُبحانَه في سورة [الأعراف: ١٨٠] : {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: ١٨٠] تَفسيرُ هذِهِ الآية: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: ١٨٠] تنبيه للمُؤمِنينَ على كَيْفِيَّةِ ذِكْرِهِ تَعَالى، وَكَيْفِيّة المُعامَلَةِ مَعَ المُخِلِّينَ بذلِكَ الغافِلينَ عَنه سُبحانَه، وَعَمَّا يَليقُ بِشأنِه، إثْرَ بَيانِ غَفْلَتِهِمُ التَّامَّة، وَضَلالَتِهمُ الطَّامَّة.

{فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: ١٨٠] إمَّا مِنَ الدَّعْوَةِ بِمعْنى التّسمِيَةِ، كَقَولهِم: دَعَوْتُهُ زَيدًا، أوْ يزيد أيْ: سَمَّيْتُهُ، أو الدُّعاءِ بِمعْنى النِّداءِ، كَقَولهِم: دَعْوتُ زيدًا، أيْ: نادَيْتُهُ.

{وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: ١٨٠] أيْ يَميلونَ وَيَنْحَرِفون فيها عَنِ الحَقِّ إلى الباطِلِ، يُقال: ألْحَدَ، إذا مال عَنِ القَصْدِ والاستِقامَةِ، ومِنه لَحْدُ القَبْرِ لِكَونهِ في جانِبِهِ بِخلافِ الضَّريحِ، فإنَّهُ في وَسَطِهِ.

والإِلحادُ في أسمائِهِ سبحانَه أنْ يُسَمَّى بِلا تَوْقيفٍ فيه، أوْ بِما يُوهِمُ مَعنًى فاسِدًا، كما في قولِ أهلِ البَدْوِ: يا أبا المَكارِم، يا أبيضَ الوجْهِ، يا سَخِيُّ، ونحو ذلك، فالمُرادُ بِترْكِ المأمورِ بِهِ الاجتنابُ عن ذلك، وأسمائِهِ ما أطْلَقوهُ عَلَيه تَعالى

<<  <  ج: ص:  >  >>