قال:"مَرَّ رجُلانِ على قوم لهم صَنَمٌ لا يُجاوِزُهُ أحد حتى يُقَرِّبَ لَهُ شَيئا، قالوا لَهُ: قَرِّبْ وَلَوْ ذُبابا، فَقَرَّبَ ذبابا، فَخَلَّوا سبيلَه، فَدَخَلَ النّارَ، وقالوا للآخرِ: قَرِّبْ، قال: ما كنتُ أقرِّبُ شَيْئًا لأحَدٍ دونَ الله عَزَّ وَجَلَّ، فَضَربوا عُنقهُ، فَدَخَلَ الجَنَّة» . ففي هذا الحديثِ من الفوائدِ: كَونُ المُقَرِّب دخل النَّارَ بالسَّببِ الذي لم يَقْصِدْ، بل فَعَلَه تَخَلُّصا مِن شَرِّهِم، وَأنهُ كان مُسْلِما، وإلا لَمْ يَقُلْ: دخل النَّارَ. وفيه ما يَنبغي الاهتمامُ بِهِ مِن أعمال القُلوبِ، التي هي المَقصودُ الأعظمُ والرُّكْنُ الأكبرُ. فَتَأمَّلْ في ذَلِكَ، وانظُرْ إلى فؤادِك في جميعِ ما قالوه، وَألْقِ سَمْعَكَ لِما ذَكَروهُ، وانظُر الحَقَّ، فإنَّ الحَقَّ أبْلَجُ والباطِلَ لَجْلج، فَبالنَّظَرِ التَّامِّ إلى ما كان عليه المُشرِكون مِن تَقَرُّبِهم لأوثانِهم؛ لِتُقَرِّبَهُمْ إلى الله؛ لِكونهِم شُفعاءً لهم عند الله، وشفاعتُهم بسبب أنَّهم رُسُلُ الله أو ملائكةُ الله أو أولياءُ الله، يتبينُ لك ما عليه النَّاسُ الآنَ، واللَّهُ المستعانُ.
[التبرك بآثار المعظمين]
التبرك بآثار المعظمين (الثمانون) : التَّبَرّكُ بآثارِ المعظمينَ، كَدارِ النَّدوَةِ، وافتِخار مَن كانت تحت يدهِ بِذَلِكَ. كما قيل لحكيمِ بنِ حِزامٍ: بعتَ مَكْرُمَةَ قريشٍ، فقال: "ذهبت المكارمُ إلا التقوى". هذه الخَصلةُ قدِ امْتَدَّت عروقُ ضَلالِها في أودِية قُلوبِ جَهَلَةِ المُسلِمينَ، وزادوا في الغُلُوِّ بِها عَلى ما كانَ عَلَيْهِ جاهِلِيةُ العربِ والكِتابِيِّينَ. ولا بِدْعَ مِن حكيم بنِ حزامٍ القريشيِّ الأسديِّ إذا ما ردَّ عَلى مَن قال له: بِعتَ مَكْرُمَةَ قريشٍ؟ وقد باعها مِن مُعاوِيَةَ بمائةِ ألفِ دِرهَمٍ: "ذهبت المَكارمُ إلا التقوى". كيفَ لا وقد كان عاقلا سرَيّا، فاضلا تَقيًّا، سَيِّدا بِمالِهِ غَنِيّا، أعتَقَ في الجاهِلِيَّةِ مائةَ رَقَبَةٍ، وَحَمَلَ عَلَى مائة بَعِيرٍ، وحَجَّ في الإِسلامِ ومعه مائةُ بَدَنَةٍ قَدْ جَلَّلَها بالحَبِرَةِ، وَكَفَّها عن أعجازِها، وأهداها، وَوَقَفَ بمائة وَصيفٍ بعرفةَ في أعناقِهِم أطواقُ الفِضَّةِ مَنْقوشٌ فيها: "عتقاءُ الله عن حكيمِ بنِ حِزامٍ "، وأهْدَى ألفَ شاةٍ، وهو الَّذِي عاش في الجاهِلِيَّةِ ستِّينَ سَنَةً، وفي الإِسلام ستِّينَ سَنَةً، وَوُلِدَ في الكَعْبَةِ.