للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

شواهدِ رُبوبيتِهِ وَوَحْدانِيتِهِ وَإلهيتِه. إلى غير ذلكَ من الحِكمِ التي تَضَمَّنَها الخَلْقُ، فَخَلَقَ مَخْلوقاتِهِ بِسببِ الحَقِّ. ولأجْلِ الحَقِّ، وَخَلْقُها مُلْتَبِس بالحَقِّ، وهو في نفسِهِ حَقّ: فَمَصْدَرُهُ حَقٌّ، وغايتُه حَقٌّ، وهو يَتَضَمَّنُ الحَقَّ. وقَدْ أثنى على عِبادِهِ المؤمِنينَ حَيْثُ نَزَّهوهُ عنْ إيجادِ الخَلْقِ، لا لِشَيْءٍ ولا لِغاية، فَقَالَ تَعالى [آل عمران: ١٩٠- ١٩١] : {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ - الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} [آل عمران: ١٩٠ - ١٩١] وَأخْبَرَ أنَّ هَذَا ظَنُّ أعدائِهِ، لا ظَنُّ أوليائِهِ فقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: ٢٧]

وكيفَ يَتَوَهَّمُ أنَّه عَرَفَهُ مَن يقولُ: إنَّه لم يَخلقِ لِحكمةٍ مطلوبة لَه، ولا أمَر لِحكمةٍ، ولا نَهَى لِحكمةٍ، وإنَّما يَصدُرُ الخَلْقُ والأمرُ عن مشيئَةٍ وقُدْرَةٍ مَحْضَةٍ، لا لِحكمةٍ ولا لِغاية مقصودةِ.

وهلْ هذا إلا إنكارٌ لحقيقة حَمْده بَل الخَلْقُ والأمرُ إنَّما قامَ بالحكمِ والغاياتِ، فَهُما مَظْهَرانِ لِحمده وحِكمتِهِ. فإِنكارُ الحكمةِ إنكارٌ لِحَقيقةِ خَلْقِهِ وأمرِهِ، فإِنَّ الذي أثبَتَهُ المُنْكِرونَ مِن ذَلِكَ لنَزَّهُ عنه الرَّبُّ، ويَتَعالى عَن نسبتِهِ إليهِ، فإنَّهم أثْبَتوا خَلْقًا وَأْمرًا لا رَحْمَةَ فيهِ ولا مَصْلَحَةَ ولا حِكمةَ، بَلْ يَجوزُ عِنْدَهُم أو يَقَعُ أنْ يَأمرَ بِما لا مَصلحةَ لِلْمُكَلَّفِ فيه ألبتة، ويَنْهى عَمَّا فيه مَصلحة، والجميعُ بالنِّسبة إليه سواءٌ ويَجوزُ عِندَهم أنْ يَأْمُرَ بِكُلِّ ما نَهى عَنه، وَيَنْهَى عن جَميعِ ما أمَرَ بِهِ، ولا فَرْقَ بَيْنَ هذَا وهذَا إلا بِمُجَرَّدِ الأمْرِ والنَّهْي.

وَيَجوزُ عِندَهم أنْ يُعَذِّبَ مَنْ لَم يَعْصِهِ طَرْفَةَ عَينٍ، ويثيبَ مَن عصَاهُ بلْ أفْنى عُمُرَهُ في الكُفْرِ بِهِ والشِّرْكِ والظلْمِ والفُجورِ، فَلاَ سَبيلَ إلى أنْ يُعْرَفَ خِلافُ ذلِكَ منه إلا بِخَبَرِ الرَّسول، وإلا فهو جائِزٌ عليهِ. وَهَذَا مِن أقْبَحِ الظَّنِّ وأسوئهِ بالرَّبِّ سُبحانَه، وَتنزيهُهُ عَنْهُ كَتنزيهِهِ عن الظلْمِ والجَوْرِ، بَلْ هذا هو عَيْنُ الظلْمِ الَّذِي يَتَعالى الله عَنْهُ. والعَجَبُ العُجابُ أنَّ كَثيرًا مِن أربابِ هَذَا المَذْهَبِ ينزِّهونَه عَمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَه مِن صِفاتِ الكَمالِ ونُعوتِ الجَلالِ، ويزعمون أن إثباتها تجسيمٌ وتشبيهٌ، ولا ينزِّهونه عن هذا الظلم والجَوْرِ، ويَزْعُمونَ أنه عَدْل وَحَقّ، وأنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>