قَالَ تَعالى في سورةِ [آل عِمران: ٧٨] : {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: ٧٨] رُويَ أنَّ الآية نَزَلَتْ في اليهودِ والنصارى جَميعا، وَذلِكَ أنَّهم حَرَّفوا التَّوراةَ والإِنْجيلَ، وَألْحَقوا بِكِتابِ الله تَعالى ما لَيْسَ مِنْهُ. واخْتَلَفَ النَّاسُ في أنَّ المحرَّفَ هَلْ كان يُكْتَبُ في التَّوراةِ أمْ لا؟ فَذَهبَ جَمْع إلى أنه لَيْس في التَّوراةِ سِوى كلامِ الله تَعالى، وأنَّ تَحْريفَ اليهودِ لم يَكُنْ إلا تَغْييرا وَقْتَ القِراءَةِ، وتأويلا باطِلا للنُّصوصِ، وأمَّا أنَّهم يَكْتُبون ما يَرومونَ في التَّوراةِ على تَعدُّدِ نُسَخِها فَلا. واحْتَجُّوا لِذَلِكَ بمَا رُويَ أنَّ التَّوراةَ والإِنجيلَ كما أنْزَلَهما الله تَعالى لم يُغَيَّرْ منهما حَرْفٌ، وَلَكِنَّهُم يُضِلُّونَ بِالتَّحْريفِ والتّأويلِ وَكُتُبٍ كانوا يَكْتُبونَها مِن عِندِ أنْفُسِهِم، وَيقولونَ: إنَّ ذَلِكَ مِنْ عِندِ الله، وما هو مِنْ عِندِ الله، فأمَّا كُتُبُ الله تَعالى فإنَّها مَحْفوظَةٌ لا تحوَّل. وبأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَقولُ لِليهودِ إلزامًا لهم: «ائتوا بِالتَّوراةِ فَاتْلوها إنْ كنْتُمْ صادِقينَ» ، وهم يَمْتَنِعونَ عن ذَلِكَ، فَلَو كانَت مُغَيَّرَةً إلى ما يُوافِقُ مَرامَهُمْ ما امْتنعوا، بَلْ وَمَا كانَ يقولُ لَهُم ذَلِكَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لأنَّهُ يَعودُ على مَطلَبِهِ الشَّريفِ بالإِبطالِ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إلى أنَّهُم بَدَّلوا، وَكَتموا ذَلِكَ في نَفْسِ كِتابِهم، واحْتَجُّوا على ذلك بكثيرٍ مِنَ الظَّواهِرِ (١) . ولا يَمْنَعُ مِن ذَلِكَ تَعَدُّدُ النُّسَخِ؛ لاحْتِمالِ التّوَاطُؤِ، أو فُعِلَ ذَلِكَ فِي البَعْضِ دُونَ البَعْضِ، وكَذَلِكَ لا يَمْنَعُ مِنْه قَولُ الرَّسولِ لَهُمْ ذَلِكَ؛ لاحْتِمالِ عِلْمهِ بِبقاءِ بَعضِ ما يَفي بغرَضِهِ سالِما عَنِ التَّغْييرِ، إمَّا لِجَهلِهِم بوجْهِ دِلالَتِهِ، أو لِصَرْفِ الله تَعالى إياهُم عن تغْييرِهِ. وتَمامُ الكَلامِ في تفسيرِ الجَدِّ عندَ الكلام على هَذه الآية، وكذا في (الجَواب الصَّحيح) لشَيخِ الإِسلامِ. وكثيرٌ مِنَ الأمَّة المحمَّدِيّة سَلَكوا مَسْلَكَ الكِتابِيِّيينَ في التَّحريفِ، والتّأويلِ، واتِّباعِ شَهَواتِهِم. وقَالَ تَعالى في سورةِ [النِّساءِ: ٤٦] :
(١) ومنها أن السفر المنسوب إلى موسى نفسه مذكور فيه خبر وفاة موسى مكتوبا من بعده، فكيف يوحى إليه أو يصدر عنه ما كتب بعده؟ محب الدين الخطيب.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute