لأنَّهم لم يَقولوا هذهِ المَقالةَ تسليما، بَل إنكارًا، كَأنَّه قيلَ: هذا الكذبُ الذي يَدَّعيه، لَوْ كانَ حَقّا، لكانَ الحَقيقَ به رجلٌ مِن القَريتينَ عَظيم. وَهَذَا منهم لِجَهْلِهم بأنَّ رتبةَ الرِّسالةِ إنَّما تَستدعي عظيمَ النَّفسِ بالتَّخَلِّي عن الرَّذائلِ الدَّنِيَّةِ، والتَّحَلِّي بِالكمالاتِ والَفضائلِ القُدْسِيَّة، دونَ التَّزخْرُفِ بِالزَّخارِفِ الدُّنْيَويَّةِ. فَأنْكَرَ سُبحانَه عَلَيْهم بِقولهِ: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: ٣٢] وفيهِ تَجْهيلٌ وَتَعْجيب مِن تَحَكُّمِهم بِنزولِ القرآنِ العَظيمِ على مَن أرادوا. {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: ٣٢] قِسمةً تَقْتَضيها مشيئَتُنا المَبنيَّةُ على الحِكمِ والمَصالحِ، ولم نُفَوِّضْ أمرَها إلَيْهم، عِلمًا مِنَّا بعَجْزِهِم عَن تَدبيرِها بالكُلِّيَّةِ. {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ} [الزخرف: ٣٢] في الرِّزْقِ وسائرِ مبادئ العَيْشِ. {دَرَجَاتٍ} [الزخرف: ٣٢] مُتَفاوِتَة بِحَسَبِ القُربِ والبُعدِ حَسْبَما تَقتضيه الحِكْمَة، فَمِن ضعيفٍ وقويٍّ، وَغنيٍّ وفقيرٍ، وخادم ومخدومٍ، وحاكمٍ ومحكومٍ. {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: ٣٢] لِيَستعملَ بعضهم بعضا في مصالحِهِم، ويَسْتخدِموهم في مِهَنِهم، وَيُسَخِّروهم في أشغالِهم، حَتَّى يَتَعايَشوا، ويَتَرافدوا، وَيَصِلوا إلى مرافِقهم، لا لكمالٍ في المُوَسَّع عَلَيْهِ، ولا لِنَقصٍ في المُقَتَّر عَلَيْهِ، وَلَوْ فَوَّضْنَا ذَلِكَ إلى تدبيرِهِم لَضاعوا وَهَلَكوا، فإذا كانوا في تدبير خُوَيْصةِ أمرِهم، وما يُصْلِحُهُم مِن مَتاع الدُّنْيا الدَّنِيَّةِ وهو على طَرَف الثُّمامِ بهِذِهِ الحالة، فما ظَنُّهُم بِأنْفُسِهم في تدبيرِ أنفسِهم، وفي تدبيرِ أمرِ الدِّينِ، وهو أبعدُ مِن مَناطِ العَيُّوقِ، ومِن أينَ لهمُ البحثُ في أمرِ النُّبُوَّةِ، والتَّخَيُّر لها مَن يَصلُحُ لها، ويقومُ بأمرِها. وفي قوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا} [الزخرف: ٣٢] إلخ ما يُزَهِّدُ في الانكبابِ على طَلَبِ الدّنيا، ويُعينُ على التَّوكُّلِ على الله عز وجل، والانقطاع إليهِ جَلَّ جلالُه.
فاعْتَبِرْ "نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ " ... تلْقَهُ حَقًّا وَبِالْحَقِّ نَزَلَ
{وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: ٣٢] أيْ: النُّبُوَّةُ وَما يَتْبَعُها مِن سَعادةِ الدَّارَيْنِ خَيْر مِمَّا يَجْمَعونَه مِن حُطامِ الدنيا الدَّنِيّة، فالعظيمُ مَن رُزِقَ تلكَ الرَّحْمةَ دونَ ذَلِكَ الحُطامِ الدَّنِيءِ الفاني. وَأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ كثيرا مِنَ النَّاس اليومَ على ما كانَ عليه أهلُ الجاهِلِيَّةِ في هذهِ الخَصْلَة، فَترَاهم لا يَعْتَبِرونَ العِلمَ إذا كانَ صاحِبُه فقيرَ الحالِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute