للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال أبو زرعة الرازي: إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى ذلك كله إلينا الصحابة، وهؤلاء الزنادقة يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، فالجرح بهم أولى.

قال ابن الصلاح: ثم إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة، ومن لابس الفتن منهم فكذلك بإجماع العلماء الذين يعتد بهم فيه، إحسانًا للظن بهم، ونظرًا إلى ما تمهد لهم من المآثر، وكأن الله سبحانه وتعالى أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة.

أما بعد: فإن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم وزراؤه وجنوده، وخلصاؤه وأهل محبته، يكفيهم شرفًا أن يشيد الله عز وجل بهم في كتابه الكريم ليبقى هذا الإطراء الإلهي أثرًا خالدًا يدوم على الزمن ما يبقى الزمن، فقد استجابوا لداعي الحق ابتغاء مرضاته، وحبًّا لرسوله الكريم، ذلك الحب الذي ملك عليهم نفوسهم فانقادوا له إيمانًا بما جاء به، وكانوا معه نصراء دعوته يشدون أزره، وأمناء سره ينفذون أمره.

أحب الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم حبًّا ملأ قلوبهم، وسيطر على وجدانهم ومشاعرهم حتى جعل أحدهم يقول وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة مجاهدًا في إحدى الغزوات: والله ما أحب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكانه تصيبه شوكة.

لقد غمر هذا الحب نفوسهم فامتلأت بالرضا والطمأنينة، وترجموه بجوارحهم انقيادًا لله وطاعة لرسوله، واتباعًا له صلى الله عليه وسلم فيما يأمر به، واجتنابًا لما ينهى عنه، ووعيًا كريمًا لكل ما يفعل وما يقول: فحفظوا قوله، وحكوا فعله، وكانوا صورا حية للمسلم الكامل الذي يرضى الله ورسوله عنه، وصدق عليهم قول الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ١.

لقد اعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة أصفياءه وخاصته، وجنوده وأهل محبته، فقربهم وأثنى عليهم، ومدحهم ودافع عنهم بهذا القول الكريم: "لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه" ٢.

لقد اختارهم الله عز وجل لتأييد نبيه ومساندة رسوله، واصطفاهم لحمل الرسالة عنه، وتبليغها إلى الأجيال من بعده، فكانوا حملة الدين، ونقلة العلم، وحفظة القرآن، ورواة السنة، انتشروا في أقطار الأرض دعاة بالقول والعمل، هداة بالكتاب والسنة، وتلقى


١ سورة التوبة: ١٠٠.
٢ أخرجه مسلم ج١٦ ص٩٢.

<<  <   >  >>