والآن، وبعد أن استعرضنا نماذج من كتب أحاديث الأحكام، بدأناها بموطأ الإمام مالك، وختمناها بكشف الغمة عن جميع الأمة للإمام الشعراني، ورأينا كيف كانت محاولة الإمام مالك لجمع أحاديث الأحكام، والآثار التي وردت بشأنها، وكان لهذه المحاولة قيمتها وأثرها، باعتبار قربها من المنابع الأصيلة لتعاليم الإسلام زمانًا ومكانًا، فقد عاش صاحبها في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاصر كثيرًا من التابعين وأتباعهم، وكانت تعاليم الإسلام لا تزال غضة، وأهل العصر ما يزالون متمسكين بعهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومترسمين لنهجه وخطاه، ولم تكن الفرق قد نشأت بعد، ولا الأعاجم قد اختلطوا بالعرب والمسلمين ذلك الاختلاط الذي أثر فيهم، فكان الموطأ جامعًا لما تفرق من الآثار الواردة في الأحكام، يحدو مؤلفه الإخلاص للسنة، والنصح للأمة.
ثم جاء أبو داود، وأدرك عصر الرواية، وتيسر له من الرسائل ما لم يتيسر لسلفه الإمام مالك، فجمع كثيرًا من الآثار، وحشد كل نوع منها في كتاب أو باب، وأعانة على ذلك وجوده في عصر الرواية، واعتماد الناس آنذاك في أمور دينهم على الإسناد، ولم يكن أبو داود يتدخل بشرح كلمة في الحديث إلا على ندرة، وبذلك يمكن أن نعتبر أبا داود جامعًا لنصوص الأحكام، مستوعبًا لما ورد بشأنها من الحديث والأثر أو يكاد.
ولم يكد يمضي القرن الثالث الهجري حتى جاء الإمام الطحاوي، وكانت السنة قد جمعت على أيدي الأئمة الأعلام: فقد سبقه لذلك أبو داود، وسبقه إماما الحديث البخاري ومسلم، وسبقه أئمة الفقه الأعلام: الشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل، ومن قبل هؤلاء الإمام مالك، والحركة الفكرية في الجمع والتصنيف والتدوين ما تزال على أشدها، فأعانه ذلك -بعد جمعه لأحاديث الأحكام- على إبراز شخصيته محدثًا وفقيهًا، وشارحًا للآثار، وموفقًا بين ما يبدو فيها من تضارب، ومنتصرًا لمذهبه الذي اختاره، ومرجحًا لأدلته على أدلة غيره، فجاء كتابه "شرح معاني الآثار" كتاب حديث وفقه، أو على الأصح نستطيع أن نقول: إنه قد برز للوجود أول كتاب في فقه السنة متمثلًا في كتاب الطحاوي شرح معاني الآثار.
ثم جاء من بعد الطحاوي من رأى حذف السند اختصارًا، معتمدًا على ما استقاه من الصحيحين من أحاديث الأحكام، وكان ذلك أظهر ما يكون في كتاب المقدسي عمدة الأحكام، فكان اختصارًا للأدلة، واختيارًا لأقواها درجة وأصحها إسنادًا، ومن أجل ذلك كان قاصرًا لم يستوعب كثيرًا من الأدلة، تبعًا لاقتصاره على ما أورده الشيخان من أحاديث الأحكام، ومن ثم دعت الحاجة إلى شرحه وبيان ما فيه، وتدعيمه بما تيسر من الأدلة التي عزبت عنه، فكان شرح ابن دقيق العيد المسمى بإحكام الأحكام، وكتابه الآخر الذي سماه بالإلمام.