[الدور الخامس: عصر التقليد والاختصار والتقريب ومنهجهم فيه]
وبعد القرن الرابع الهجري كاد ينتهى عصر الاجتهاد في جمع السنن من أفواه الرواة، والنظر في رجال الأسانيد، وإنزال كل منهم منزلته، وبيان صحيح الحديث وسليمه من عليله وسقيمه، وركن الناس إلى التقليد، ولهذا نجد أكثر الكتب المؤلفة بعد هذا القرن سلكت مسلك التهذيب والترتيب، أو جمع الشتيت وبيان الغريب، أو لجأت إلى الاختصار والتقريب، وأغلب من تكلموا على الأسانيد بعد المائة الرابعة كانوا عيالًا على ما دونه أئمة الحديث فيما سبقهم من القرون.
وإلى جانب العناية بمتن الحديث كانت العناية موجهة غلى تاريخ الحديث وعلومه الأخرى، كان التأليف في الغريب، والناسخ والمنسوخ، وإظهار حال الرجال، والكشف عن علوم الحديث ومصطلحاته، وغير ذلك من الأغراض الجليلة والأقسام المتنوعة.
كان العلماء في ذلك العهد يرتبون ما جمع من الحديث على غير نظام المسانيد، ألفوا الجوامع في الأطراف والزوائد، وضحوا المبهمات في كتب الشروح والغريب ومشكل الحديث والأثر، وألفوا في أصول الحديث، وكتبوا في التخريج، وفي علم الرجال بفنونه وأنواعه -وسوف نذكر بيانًا لذلك ونماذج منه فيما يأتي من هذا الكتاب إن شاء الله فلا نطيل هنا بذكره- وظل علماء السنة في سائر بلاد العالم الإسلامي في الحجاز والعراق والشام ومصر يلتزمون هذا المنهج، يطوفون حول ما جمع السابقون من حديث، وما ألفوا من علومه بالترتيب والتهذيب، والاختصار والتبويب، والشرح والتقريب، واستنباط الفوائد، واقتناص الشوارد، ومحاولة إضافة الجديد إلى علوم الأولين، والانتفاع بذلك كله في الدراسة والتعليم، وإفادة الأمة به في شئون الدنيا والدين.
ومن الطبيعي ألا يكون علماء مصر في ذلك الحين، بمعزل عن الحياة العلمية في البلدان الأخرى فإن رحلتهم في طلب العلم إلى تلك البلاد، ورحلة علماء تلك البلاد إليهم جعلت هناك تقاربًا في المناهج بين المحدثين، سواء في ذلك الرواية أو الدراية أو التدوين أو التأليف، ولذلك نستطيع أن نقرر أن مناهج المحدثين في مصر قبل سقوط بغداد لم تختلف من غيرها في البلاد الأخرى، وأنها قد مرت أيضًا بهذه الأدوار الخمسة، واختلفت مناهج المحدثين فيها على النحو التالي:
١- الرواية المتثبتة.
٢- تدوين الحديث مختلطًا بغيره.
٣- تدوين الحديث مفروزًا.
٤- الترتيب والتهذيب.
٥- التقليد والاختصار والتقريب.
وقد التزم كل من العلماء منهجًا عامًّا باختياره نوعًا معينًا من علوم الحديث يتناوله بالدراسة والعرض في كتابه، ومنهجًا خاصًّا يلتزم به في عرضه لهذا الكتاب، وقد أكثر العلماء من التأليف في تلك العلوم المتعددة، فمنهم من كتب في نوع من هذه العلوم، ومنهم من كتب في أكثر من نوع منها.
وقد استوعب صاحب الرسالة المستطرفة ما يتعلق بما نحن بصدده من مناهج المحدثين، ولذلك رأينا أن نعتمد عليها في تناول تلك المناهج، وأن نقتبس منها ما نرى ضرورة اقتباسه في هذا المقام، ولا سيما في سرد بعض الكتب وأسماء مؤلفيها وتعداد أنواعها ملخصًا ومرتبًا على النحو التالي:
نقل عن ابن حجر في أول مقدمة فتح الباري ما يفيد أن آثار النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن