بعد أن عرضنا ما تيسر لنا من مناهج كل من العهدين قبل سقوط بغداد وبعد سقوطها، فإننا نستطيع على ضوئه وبإضافة ما سنح لنا بعد النظر في هذا الخضم الحافل من الكتب المختلفة، وما بينها من جهات التشابه ونواحي الاختلاف أن نذكر أهم ما ينبغي إيراده من ذلك، بعد أن نشير إلى أنه من العسير إيجاد الحدود الدقيقة الفاصلة بين عهد وعهد، يتميز فيه أحدهما عن الآخر تميزًا تامًّا، فإن ذلك شيء تأباه طبائع الأشياء، وإننا مهما حاولنا إيجاد حد فاصل بين عهد وعهد فسوف نجد التداخل بين تلك العهود، والترابط بين الخلف وسلفه يأبى إلا أن يقتحم على تلك المحاولة بما ينقضها، كما أنه من العسير إيجاد ذلك بين قطر وقطر، فإن الرحلات بين العلماء في مختلف الأقطار تستلزم أن يأخذ بعضهم عن الآخر معارفه ومناهجه، ويستفيد بذلك فيما ينقله إلى وطنه عند عودته إليه، وسيتجلى ذلك فيما نورده من عرض هذه المقارنات في ألوانها المختلفة وصنوفها المتعددة.
ولا يفوتنا في هذا المقام أن ننوه بقدر مشترك بين هذه العهود سابقها ولاحقها، في أن جهودًا عظيمة لم يخل منها عصر من عصور الإسلام وجهتها عناية ربانية كريمة للحفاظ على هذا الدين إلى الإسهام المشكور في خدمة هذه السنة النبوية المطهرة، التي هي أول ما يجرع إليه في هذا الدين بعد كتاب الله عز وجل، فقد أسهم الجميع بجهود صادقة في حدود ما ترتبط به ثقافة عصورهم في تحمل هذه السنة النبوية الكريمة وأدائها إلى المسلمين.
المقارنة والموازنة:
أما الذي يدل عليه النظر في هذه الكتب التي بين أيدينا من مؤلفات لعلماء الحديث في القديم والحديث فإننا نلخصه فيما يأتي:
أولًا- تشترك هذه المؤلفات في مختلف هذه العهود إجمالًا فيما يلي.
١- جمع السنة، ونعني به أن كلا من السلف والخلف من أهل الحديث قد عني بجمع الأحاديث النبوية ونقلها إلى الأمة مصطبغًا في هذا الجمع بما يناسب عصره مما أشرنا إليه في أدوار نقل السنة.
٢- ترتيب الأحاديث على الأبواب الفقهية، وقد بدأ هذا الأمر مبكرا لشدة عناية رجال الدين به قاطبة -وعلى رأسهم أئمة الحديث- وإن كان هناك اختلاف يسير بين بعض الكتب وبعض في ذلك الترتيب بحسب ظروف التأليف والعصر، وهذه ظاهرة تبدو بارزة في كثير من المؤلفات على اختلاف العصور، وكان أول ما ظهر من ذلك في عصر تدوين السنة موطأ الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، وأول ما ظهر من ذلك العهود المتأخرة عمدة الأحكام للمقدسي المتوفى سنة ٦٠٠هـ والذي ألفه قبيل سقوط بغداد، على أن صاحبه قد جرد أحاديثه من الأسانيد اختصارًا، واعتمادًا على ما انتهجه لنفسه من قصره على ما في الصحيحين البخاري ومسلم من أحاديث الأحكام الفقيهة.