ولقد صدق القائل الثاني: كم ترك الأول للآخر، فحيث حقق الله سبحانه النية في ذلك سلكت طريق الكتابين في الترتيب والوضع الذي حوياه من التقفية على حروف المعجم بالتزام الحرف الأول والثاني من كل كلمة، وأتبعتها بالحرف الثالث منها على سياق الحروف. ورأيت أن أثبت ما فيه حروف مزيدة في باب الحرف الذي هو في أولها وإن لم يكن أصليًّا، ونبهت عند ذكره على زيادته دفعًا لشبهة الجهل عني.
هذا هو ما جاء في مقدمة كتاب النهاية لابن الأثير، وإن كنا قد تعرضنا للإطالة في النقل عنه فلأنه كفانا عناء الرجوع إلى غيره في عرض الأطوار التي ينشدها طالب هذا النوع من علوم الحديث فكان لا بد لنا من هذا المسلك في بيان المراحل التي مر بها التأليف في غريب الحديث.
ويبدو لنا أن هذا المؤلف كان غاية ما انتهت إليه الهمم في هذا الباب، وإن كان قد ألف في موضوعه شيء بعده فمبلغ علمنًا أنه لا يعدو أن يكون اختصارًا لهذا الكتاب، ونستطيع أن نقرر أن المرحلة التي نحن بصدد دراسة الحديث فيها زمانًا ومكانًا لم تثمر من الكتب شيئًا يستحق الذكر في هذا النوع الذي أغنى فيه ذلك الإمام العظيم من جاء بعده عن الاستدراك عليه، أو زيادة الترتيب أو التهذيب كما هو الشأن في المعارف الأخرى من علوم الحديث وغيرها، وإن كان صاحب لسان العرب١ -وقد أفرغ نهاية ابن الأثير في كتابه- قد أغضى عما اعتذر به ابن الأثير لنفسه ونقلناه عنه فيما أخذناه من مقدمته، حيث قال ابن منظور في خطبة لسان العرب: رأيت أبا السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري قد جاء في ذلك بالنهاية، وجاوز في الجودة حد الغاية، غير أنه لم يضع الكلمات في محلها، ولا راعى زائد حروفها من أصلها، فوضعت كلا منها في مكانه، وأظهرته مع برهانه. ا. هـ.
وإذا كنا قد آثرنا ما ذكره ابن الأثير في تقديمه للنهاية من غير تصرف بإقحام ما وقع لنا من التعرف على بعض المؤلفات الأخرى لغريب الحديث في مراجع أخرى غير هذه المقدمة فإن ذلك قد جرى منا إبقاء على تسلسل هذا النقل وعرضه ملخصًا في تنسيقه وأسلوب مؤلفه، على أن نعود فنشير إلى هذا الذي وقع لنا في العهود التي تناولها ابن الأثير منذ ظهور هذا الفن إلى زمنه ولم يذكرها ضمن ما ذكره من الكتب المؤلفة، إما لأنه لم يطلع عليها، أو اطلع عليها ولم يرد إيرادها اختصارًا في الأسلوب، أو إغضاء عن تلك الكتب، كما نشير إلى ما وقع لنا بعد عهد ابن الأثير واقتضت دراستنا التنبيه إليه استيفاء للبحث على النهج الذي انتهجناه في كل تمهيد نضعه بين يدي الكتب التي اخترنا دراستها في هذا الكتاب.
١ هو محمد بن مكرم بن علي بن أحمد الأنصاري الإفريقي ثم المصري الشهير بابن منظور صاحب المختصرات الكثيرة في علوم الأدب واللغة والتواريخ، والذي اشتهر بكتابه لسان العرب توفي سنة ٧١١هـ إحدى عشرة وسبعمائة. ا. هـ. من مقدمة لسان العرب نقلًا عن الدرر الكامنة.