ولا يفوتنا التنويه باتساع رقعة الدولة الإسلامية في هذا العصر من الأندلس غربا إلى السند شرقا بمدنها العامرة الزاخرة بالحركة العلمية والنشاط التجاري والنهضة الزراعية والصناعية، ولهذا أثره الكبير في حيوية الفقه وازدهاره، لتفاعل الحضارات المختلفة من أجناس متباينة الأرمة صهرها الإسلام في بوتقته؛ فكثرت الأحداث، وتفرعت المسائل، واستنبط العلماء لكل مسألة حكما.
والمدينة، وهي دار الهجرة التي أقام بها مالك كانت تستقبل العديد من وفود المسلمين الذين يقدمون لزيارة مسجدها من حين لآخر.
واتسم عصر مالك كذلك بالحركة الفكرية التي نجمت من اتصال الفكر الإسلامي بالفلسفة اليونانية والفارسية والهندية إثر حركة الترجمة على النحو الذي بسطناه في الحديث عن عصر أبي حنيفة؛ مما أدى إلى منازعات فكرية حول عقائد متباينة، وآراء متناحرة؛ إلا أن أبا حنيفة كان بالعراق موطن هذا التناحر، فتأثر بها تأثيرا مباشرًا؛ بينما كان مالك بالمدينة التي عاشت بمنأى عن هذه المنازعات الفكرية، ولم يرج في سوقها مذاهبها، بل راج فيها علم الكتاب والسنة؛ فكان تأثيرها على مالك سلبيا.
وفي المدينة كانت المدرسة الفقهية الأولى المعروفة بمدرسة الفقهاء السبعة، وعلى يد تلاميذ هذه المدرسة تلقى مالك العلم، وهم يؤثرون الرواية ويرون فيها عصمة من الفتن، ولا يأخذون بالرأي إلا اضطرارا، وعلى النقيض من هذا، كان أساتذة أبي حنيفة من شيوخ مدرسة أهل الرأي في العراق الذين يفرضون مسائل غير واقعية ويضعون لها أحكاما بآرائهم.
ومع هذا كان للرأي في فقه مالك حظ لتبادل المعارف في عصره.
ومحمد الصاحب الثاني لأبي حنية أخذ الحديث عن الثوري، ولازمه مالك ثلاث سنوات وأخذ عنه، وكان مالك معنيا بمعرفة آراء أبي حنيفة في المسائل المختلفة.