لا يستطيع الإنسان أن يفصل بين التشريع المكي والتشريع المدني؛ فإن المدني يعتبر امتدادا للمكي حيث بني التشريع في المدينة على قواعد التوحيد وأصول الدين التي نزل بها الوحي في مكة. قال الشاطبي:
"المدني من السور ينبغي أن يكون منزلا في الفهم على المكي، وكذلك المكي بعضه مع بعض، والمدني بعضه مع بعض، على حسب ترتيبه في التنزيل، وإلا لم يصح، والدليل على ذلك أن معنى الخطاب المدني في الغالب مبني على المكي، كما أن المتأخر من كل واحد منهما مبني على متقدمه، دل على ذلك الاستقراء، وذلك إنما يكون ببيان مجمل أو تخصيص عموم، أو تقييد مطلق، أو تفصيل ما لم يفصل، أو تكميل ما لم يظهر تكميله. وأول شاهد على هذا أصل الشريعة؛ فإنها جاءت متممة لمكارم الأخلاق ومصلحة لما أفسد قبلُ من ملة إبراهيم عليه السلام.
ويليه تنزيل سورة الأنعام؛ فإنها نزلت مبينة لقواعد العقائد وأصول الدين، وقد خرج العلماء منها قواعد التوحيد التي صنف فيها المتكلمون، من أول إثبات واجب الوجود إلى إثبات الإمامة. هكذا قالوا.
وإذا نظرت بالنظر المسوق في هذا الكتاب تبين به من قرب بيان القواعد الشرعية المكية التي إذا انخرم منها كل واحد، انخرم نظام الشريعة، أو نقص منها أصل كلي.
ثم لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان أول ما نزل عليه سورة البقرة، وهي التي قررت قواعد التقوى المبنية على قواعد سورة الأنعام؛ فإنها بنيت على أقسام أفعال المكلفين جملتها، وإن تبين في غيرها تفاصيل لها.