للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

نزل الإمام الشافعي بغداد عند محمد بن الحسن، فأخذ فقه العراقيين عنه، وقرأ كتبه فاجتمع له بذلك فقه الحجاز وفقه العراق، أي الفقه الذي يغلب عليه النقل، والفقه الذي يغلب عليه العقل. وقد قال ابن حجر في ذلك "انتهت رياسة النقل والفقه بالمدينة إلى مالك بن أنس، فرحل إليه ولازمه وأخذ عنه، وانتهت رياسة الفقه بالعراق إلى أبي حنيفة فأخذ عن صاحبه محمد بن الحسن".

ليس فيه شيء إلا وقد سمعه عليه؛ فاجتمع علم أهل الرأي وعلم أهل الحديث، فتصرف في ذلك حتى أصل الأصول، وقعد القواعد، وأذعن له الموافق والمخالف، واشتهر أمره، وعلا ذكره، وارتفع قدره، حتى صار منه ما صار.

ومع أن الشافعي أقام في بغداد ولازمه محمد بن الحسن، ونقل عنه حتى قال: "حملت عن محمد بن الحسن وقر بعير ليس عليه إلا سماعي منه" إلا أنه كان يعتبر نفسه من صحابة مالك، ومن فقهاء مذهبه، وحملة موطئه، يدافع عن فقه الحجازتين وطريقتهم، ويناظر أصحاب ابن الحسن في ذلك؛ بل إنه ناظر محمدا نفسه في مسألة الشاهد واليمين.

عاد الشافعي من العراق إلى مكة فأخذ يلقي دروسه في الحرم المكي، ويلتقي بكبار العلماء في موسم الحج، كما التقي به أحمد بن حنبل، وظل في إلقاء دروسه بمكة مدة طويلة، ذكر الرواة أنها بلغت تسع سنين، ظهرت فيها شخصيته في نضجه الفكري، ومنهجه العلمي، ومذهبه الفقهي، ورأى من خلال تشعب الآراء واختلاف الأفكار ضرورة وضع مقاييس ثابتة، ومعايير صحيحة، يعرف بها الحق من الباطل؛ فأكب على الكتاب الكريم، يدرسه ويتعرف على دلالته وأحكامه، وعلى السنة النبوية يعرف صحيحها من سقيمها، وطرق الاستدلال بها، ومقامها من القرآن، وكيف تكون ضوابط الاجتهاد لاستخراج الأحكام إذا لم يكن كتاب ولا سنة.

وعندما انتهى إلى وضع أصول للاستنباط ينبغي أن يعرفها الفقهاء. سافر إلى بغداد للمرة الثانية سنة ١٩٥هـ يحمل إليها قواعده وأصوله وضوابطه، فانهال عليه

<<  <   >  >>