للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأيضاً فإن المشتغل بعلم الشريعة محصل الأمن من السلطان والخاصة والعامة، متصد لعلو الحال في الدنيا والصلاح فيها؛ ومن خالفها محصل (١) للمخالفة للسلطان والخاصة والعامة، متعرض للبلاء في دمه وحاله وماله؛ فلا أضعف حالاً ولا أسوأ تمييزاً ولا أضعف عيشاً ممن (٢) لا يقر بالمعاد ولا يعرف إلا هذه الدار، ثم هو متعرض للبلاء مدة حياته. وإنما يتحمل الأذى والمخاوف ويتعرض للهلكة والبلاء (٣) من يرى أنه إذا خرج من هذه الدار صار إلى الحياة الأبدية والنعيم السرمدي والسرور الخالد (٤) وإلا فهو أحمق مجنون. وإنما قلنا هذا البرهان العقلي الحسي الضروري: إن إيثار علم الشريعة على كل علم واجب على كل من لا يقر بالمعاد وعلى من يشك بالمعاد، كوجوبه على من يقر بالمعاد.

وإن قوماً قوي جهلهم، وضعفت عقولهم، وفسدت طبائعهم، يظنون أنهم من أهل العلم وليسوا من أهله، ولا شيء أعظم آفة على العلوم وأهلها الذين هم أهلها بالحقيقة من هذه الطبقة المذكورة، لأنهم تناولوا طرفاً من بعض العلوم يسيراً، وكان الذي فاتهم من ذلك أكثر مما أدركوا منه، ولم يكن طلبهم لما طلبوا من العلم لله تعالى، ولا ليخرجوا من ظلمة الجهل، لكن ليزدروا بالناس زهواً وعجباً، وليماروا لجاجاً وشغباً، وليفخروا أنهم من أهله تطاولاً ونفجاً، وهذه طريق مجانية الفلاح، لأنهم لم يحصلوا على الحقيقة وضيعوا سائر لوازمهم فعظمت خيبتهم ولم يكن وكدهم أيضاً، مع الازدراء بغيرهم، إلا الازدراء بسائر العلوم وتنقيصها، لظنهم الفاسد أنه لا علم إلا الذي طلبوا فقط. وكثيراً ما يعرض هذا لمبتدئ في علم من العلوم وفي عنفوان الصبا وشدة الحداثة. إلا أن هؤلاء لا يرجى لهم البرء من هذا الداء، مع طول النظر والزيادة في السن.

فقصدنا أن نري كل من هذه صفته أحد وجهين: إما نقص علمه الذي يتبجح


(١) ص: فحصل.
(٢) ص: لمن.
(٣) ص: ولبلا.
(٤) ص: الخالدي.

<<  <  ج: ص:  >  >>