للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

محمد بن [أبي] عامر رحمه الله، فلو وصف لي واصف بعض ما علمته منه لما صدقته. وأهل هذا الطبع أسرع الخلق محبة، وأقلهم صبراً على المحبوب وعلى المكروه، وبالضد؛ وانقلابهم عن الود علي قدر تسرعهم إليه؛ فلا تثق بملول ولا تشغل به نفسك، ولا تعنها (١) بالرجاء في وفائه. فغن دفعت إلى محبته ضرورة بعده ابن ساعته، واستأنفه كل حين من أحيانه بحسب ما تراه من تلونه، وقابله بما يشاكله.

ولقد كان أبو عامر المحدث عنه يرى الجارية فلا يصبر عنها، ويحيق به من الاغتمام والهم ما يكاد أن يأتي عليه حتى يملكها، ولو حال دون ذلك شوك القتاد، فإذا أيقن بتصيرها إليه عادت المحبة نفاراً، وذلك الأنس شروداً والقلق إليها قلقاً منها، ونزاعه نحوها نزاعاً عنها، فيبيعها بأوكس الأثمان. هذا كان دأبه حتى أتلف فيما ذكرنا عشرات ألوف الدنانير عدداً عظيماً. وكان رحمه الله مع هذا من أهل الأدب والحذق والذكاء والنبل والحلاوة والتوقد، مع الشرف العظيم والمنصب الفخم والجاه العريض؛ وأما حسن وجهه وكمال صورته فشيء تقف الحدود عنه وتكل الأوهام عن وصف أقله ولا يتعاطى أحد وصفه. ولقد كانت الشوارع تخلو من السيارة ويتعمدون الخطور على باب داره في الشاعر الآخذ من النهر الصغير على باب دارنا في الجانب الشرقي بقرطبة إلى الدرب المتصل بقصر الزاهرة، وفي هذا الدرب كانت داره رحمه الله ملاصقة لنا، لا لشيء إلا للنظر منه. ولقد مات من محبته جواركن علقن أوهامهن به، ووفي (٢) له فخانهن مما أملنه منه، فصرن رهائن البلى وقتلهن الوحدة. وأنا اعرف جارية منهن كانت تسمى عفراء، عهدي بها لا تتستر بمحبته حيثما جلست،


(١) برشيه: تعللها.
(٢) برشيه: وربين، وفي سائر الطبعات: ورئين.

<<  <  ج: ص:  >  >>