الفضائل بتمامها وأبعده عن كل نقص، يعود المريض مع أصحابه راجلاً في أقصى المدينة بلا خف ولا نعل ولا قلنسوة ولا عمامة، ويلبس الشعر إذا حضره، ويلبس الوشي من الحبرات إذا حضره، لا يتكلف إلى ما لا يحتاج اليه ولا يترك ما يحتاج إليه، ويستغني بما وجد عما لا يجد، ومرة يمشي حافياً راجلاً، ومرة يمشي بالخف، ويركب البغلة الرائعة الشهباء ومرة يركب الفرس عرياً ومرة يركب الناقة ومرة يركب حماراً، ويردف عليه بعض أصحابه، ومرة يأكل التمر دون خبز، والخبز يابساً، ومرة يأكل العناق المشوية، والبطيخ بالرطب والحلوى، يأخذ القوت ويبذل الفضل ويترك ما لا يحتاج اليه، ولا يتكلف فوق مقدار الحاجة اليه، ولا يغضب لنفسه ولا يدع الغضب لربه عز وجل ".
ولا شك أن رجال الدين الذي دعوا إلى الزهد الخالص في الدنيا أو الذين يفعلون ذلك، في حاجة إلى أن يقرأوا هذه النبذة القصيرة التي تحدد معنى الزهد الطبيعي.
وبمثل هذه البصيرة النافذة وذلك الذكاء المدهش استطاع ابن حزم أن يحل كثيراً من المشكلات التي أثارتها حياة الزهد على مر العصور، فقد كان الزهاد يتجادلون حول الفقر والغنى وأيهما أفضل: الغني أو الفقير، ولما سئل ابن حزم " آلبلاء أفضل أم العافية والفقر أفضل أم الغنى أجاب دون تردد: هذا سؤال فاسد، إنما الفضل للعباد بأعمالهم ونحن نسأل الله تعالى العافية والغنى ونعوذ بالله من البلاء والفقر، وإنما الفضل بالصبر والشكر [الرسائل: الورقة ٢٣١] .
وفي موطن آخر استطاع ابن حزم أن يوقفنا على رأي صحيح واضح في مشكلة الزهد الذي يدعو إلى المغالاة في التعبد، فقد سئل: ما الحد الأعلى في التعبد فكان جوابه: أنا اكره لكل واحد أن يزيد عن عدد ما كان يتنفل به نبيه محمد لوجهين: أحدهما: قول الله عز