للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نفسه واحتقاره الناس، فما وجدت عنده مزيداً على ان قال لي: " أنا حر لست عبد أحد ". فقلت له: أكثر من تراه يشاركك في هذه الفضيلة، فهم أحرار مثلك إلا قوماً من العبيد هم أطول يداً منك وأمرهم نافذ عليك وعلى كثير من الأحرار. فلم أجد عنده زيادة. فرجعت إلى تفتيش أحوالهم ومراعاتها، فأفكرت في ذلك سنين لأعلم السبب الباعث لهم على هذا العجب الذي لا سبب له، فلم أزل اختبر ما تنطوي عليه نفوسهم بما يبدو من أحوالهم ومن مراميهم في كلامهم، فاستقر أمرهم على انهم يقدرون أن عندهم فضل عقل وتمييز ورأي أصيل، لو أمكنتهم الأيام من تصرفه أو وجدوا (١) فيه متسعاً لأداروا الممالك الرفيعة ولبنان فضلهم على سائر الناس، ولو ملكوا مالاً لأحسنوا تصريفه، فمن هاهنا تسرب التيه إليهم وسرى العجب فيهم.

١٦٩ - وهذا مكان فيه للكلام شغب عجيب ومعارضة معترضة وهو انه ليس شيء من الفضائل كلما كان المرء منه أعرى قوي ظنه انه قد استولى عليه واستمر يقينه في أنه قد كمل فيه إلا العقل والتمييز، حتى انك تجد المجنون المطبق والسكران الطافح يسخران بالصحيح، والجاهل الناقص يهزأ بالحكماء والأفاضل العلماء، والصبيان الصغار يتفكهون (٢) بالكهول، والسفهاء العيارين يستخفون بالعقلاء المتصاونين، وضعفة النساء يستنقصن عقول أكابر الرجال وآراءهم، وبالجملة: فكلما نقص العقل توهم صاحبه أنه أوفر الناس عقلا وأكمل ما كان تمييزاً، ولا يعرض هذا في سائر الفضائل، فإن العاري منها جملة يدري أنه عار منها، وإنما يدخل الغلط على من له أدنى حظ منها وإن قل، فإنه يتوهم حينئذ إن كان ضعيف التمييز أنه علي (٣) الدرجة فيه. ودواء من ذكرنا الفقر والخمول، ولا دواء لهم أنجع منه


(١) د: لوجدوا فيه متسعا، ص: ولأداروا.
(٢) م: يتهكمون.
(٣) د: عالي.

<<  <  ج: ص:  >  >>