للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وحين وردت هذه الروافد الثقافية على الذكاء الطبيعي والصبر على عناء الطلب. تولد عن اللقاء قوتان هما أهم ما يحتاج إليه المؤرخ من وسائل، وأعني يهما القدرة على التصور الصحيح، والنقد الدقيق.

أما في مجال التصور الصحيح فيمكن أن يقال أن ابن حزم لم يدرس الجغرافيا أو الاقتصاد دراسة منظمة، ولكن صحة تصوره هي التي هدته إلى أن يجعل من هذين قاعدة لفهم التاريخ أو مناقشة الروايات التاريخية: فهو حين يناقش ما ذكر عن أعداد بني إسرائيل في زمن داود (نصف مليون مقاتل من سبط يهوذا ومليون من تسعة أسباط أخرى وبقي سبطان لم يحص عددهما. هذا عدا الأطفال والنساء والشيوخ وسائر من لا يقدر على القتال) يقول: " البلد المذكور باق لم ينقص، ولا صغرت أرضه، وحده بإقرارهم في الجنوب: غزة وعسقلان ورفح وطرف من جبال الشراة بلد عيسو ... وحدّ ذلك البلد في الغرب البحر الشامي، وحده في الشمال صور وصيدا وأعمال دمشق التي لا يختلفون في أنهم لم يملكوا منها مضرب وتد ... وحد البلد المذكور في الشرق بلاد موآب وعمون وقطعة من صحراء العرب التي هي الفلوات والرمال.... " (١) هذا التصور للجغرافيا يؤدي إلى القول بأن تلك البلاد المذكورة لا يمكن أن تتسع لتلك الملايين، فإذا أضفت إلى ذلك ما جاء في سفر يوشع من أن المدائن التي سكنها عدد من الأسباط لا كلهم بلغت في الإحصاء الكلي أربعمائة مدينة سوى القرى التي لا يحصيها إلا الله عز وجل وجدت ابن حزم يقول: " فاعجبوا لهذه الشهرة أن تكون البقعة التي قد ذكرنا مساحتها على قلتها وتفاهتها تكون فيها هذه المدن " (٢) .

وتشترك العوامل الجغرافية والاقتصادية اشتراكاً يكاد يكون متلازماً، فإذا قرأ ابن حزم في التوراة أن بني إسرائيل كانوا ساكنين في أرض قوس فقط وأن معاشهم كان من المواشي فقط وأن عددهم هنالك كان ستمائة ألف وثلاثة آلاف (سوى النساء والأطفال) احتكم إلى العاملين الجغرافي والاقتصادي فقال: مالذي يكفي هذا العدد إذا لم يكن لهم من مصدر للقوت والكسوة سوى المواشي " ثم اعلموا يقيناً أن أرض مصر كلها تضيق عن مسرح هذا المقدار من المواشي فكيف أرض قوس وحدها " (٣) . وإذا وقع في بعض الروايات على أن جباية سليمان كانت ٦٣٦٠٠٠ قنطار من ذهب رغم


(١) الفصل ١: ١٦٦.
(٢) الفصل ١: ١٦٨.
(٣) الفصل ١: ١٧٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>