تتجسد المشاعر والأحاسيس والشهوات والنزوات في الحياة العملية، وتكون جانباً من نشاط المجتمع. وهذه النزعة القائمة على التجريب تعني ان الرسالة ليست ذات غايات أخلاقية أبداً، وكل ما يحميها من التهاوي في بعض فجاجات الواقعية - وإن لم تسلم من ذلك سلامة مطلقة - إنما هي أخلاقية كاتبها، تلك الأخلاقية التي ستسفر عن وجهها عمداً في الخاتمة.
ولما كان الأعراب - من حيث أشعارهم الوجدانية وأخبارهم في العشق، يحتلون مقاماً هاماً في كتب الأدب المشرقية، ومنها كتاب " الزهرة " نفسه، رأى ابن حزم أن ينأى بكتابه عن هذه الناحية، وهذا لم يكفل لكتابه الواقعية التي التزم بها وحسب، وإنما أثر في منهجه تأثيراً واضحاً حين أعفاه من تكرار المواقف البدوية في الحب، فلم يعد بحاجة إلى أن يفرد فصولاً في البكاء على الطلول - وإن ألمح إليه إلماحاً - والأنس بالبروق اللوامع، وتلهب النيران والعافية والزجر وحنين الابل، إلى غير ذلك من مظاهر تحدث عنها ابن داود في الزهرة. وبذلك تم لرسالة " طوق الحمامة " وجه حضري قرطبي أندلسي. ويبدو أن تعلق ابن حزم " بحضارية " ذلك الوجه كان محتوماً، بسبب فقدانه " المدينة " التي أحبها كثيراً، أعني قرطبة؛ وهذا كلام يوهم بالتناقض، وتفسيره أن ابن حزم - ابن المدينة - فقد تلك المدينة وهو أشد تعلقاً بها، ولم يغص في سلبياتها فيثور عليها ويحن إلى حياة " رعوية " نقية، ولهذا تراه يستمد أمثلة التعفف من مجتمعها:" حدثتني امرأة أثق بها " و " حدثني ثقة من إخواني "(١) بينما هو يشكل في عفاف نساء الأعراب اللواتي طار لهن ذكر بالعفاف في الشعر القديم. فيقول: " وقرأت في بعض أخبار الأعراب أن نساءهم لا يقنعن ولا يصدقن عشق عاشق لهن حتى يشتهر ويكشف حبه ويجاهر ويعلن وينوه بذكرهن، ولا أدري ما معنى هذا، على أنه يذكر