الميل مع كل حسن لائح، ان المحبة لابد من أن تكون " خلقة " مجبولة في فطرة الانسان. لقد مارس كل ذلك على نحو عملي قبل أن يتعلم أحكام النظر ومخالطة المرأة الأجنبية في مجالس الفقه، ولذلك لم يستطع - بعد أن تعلم ذلك - التخلص مما نشأ عليه، إذ ما دامت العفة عن الحرام قد حالت بينه وبين الوقوع في الكبيرة، فما ثمة ضير كبير في محقرات الذنوب عند رب غفور؛ ولهذا قال فيه ابن القيم انه " انماع في باب العشق والنظر " أي لم يستطع أن يواجههما بتشدده الذي أظهره من بعد في الشؤون الأخرى.
ولعله صوناً لذلك التعفف - تزوج " نعما " في سن مبكرة، " وكانت أمنية المتمني وغاية الحسن خلقا وخلقا " وكان هو أبا عذرها (وتلك أيضاً حقيقة هامة) فكان فقدها فاجعاً لأنه ابرز إلى العيان ما انطوت عليه نفسه من " حدة رومنطيقية كامنة " كان يداريها من قبل بالاستحسان والألفة والتودد، فلم تعد هذه كافية لصد تيار الحزن الجارف المتدفق من نفسه، فقد أقام بعدها سبعة أشهر دون أن يغتسل، وهو آخذ في بكاء متواصل، رغم أنه معروف بجمود الدمع بسبب إدمانه أكل الكندر - على ما يقول - لمداواة خفقان القلب، ولم يطب له عيش بعدها ولا أنس بسواها ولا نسي ذكرها؛ شيء واحد لم يستطع ذلك الفقد أن يزلزله وهو إيمانه بالتعفف، ومما زاده رسوخاً في ذلك اتخاذه استاذه أبا علي الحسين بن علي الفاسي نموذجه الأعلى، وكان رجلاً صالحاً ناسكاً، ولعله كان حصوراً لم يتزوج، قال ابن حزم " فنفعني الله به كثيراً وعلمت موقع الإساءة وقبح المعاصي " نعم ظل قلبه يخفق كلما شاه جمالاً، وكان يقترب حتى يكاد يصبو " ويثوب إليه مرفوض الهوى ويعاوده منسي الغزل " ولكنه كان يغلب الإرادة فيفر مبتعداً.
كانت نعم جزءاً من الماضي، ولكن ذلك الماضي كله انهار دفعة واحدة حين ذهبت الدور والمقصور وانطفأ العز والجاه والغنى وتفرقت الكواعب في أنحاء الأرض، وتشتت الشمل، وتهاوى البلد الحبيب تحت