للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عن العالم في قدمه وحدثه وامتداده وانقراضه يشاور العقل ويخدمه ويستضيء به ويستفهمه، كذلك الناظر في العبد الجاني: هل هو مشابه للمال فيرد إليه أو مشابه للحر فيحمل عليه " (١) ؛ وكل هذا لا ينطبق على التوحيدي، لم يكن يسافر من بلد إلى بلد " مفيداً أو مستفيداً " للدعوة إلى المنطق والفلسفة، وهو أبعد ما يكون عن الشعور بأسباب السيادة والاستعلاء، وهو ضيق الصدر بالكلام والمتكلمين على حد سواء.

ومهما يكن من أمر فإن مؤلف هذه الرسالة يرتب العلوم على النحو التالي: الفقه (ومداره على الكتاب والسنة والقياس) والكلام والنحو واللغة والمنطق والطب والنجوم والحساب المفرد بالعدد والهندسة والبلاغة ثم التصوف (وهو مضاف إلى الرسالة إلحاقاً) . وباستطاعتنا أن نلحظ أنه يعد أربعة من العلوم الإسلامية وخمسةً من علوم الأوائل؛ فأما وضعه البلاغة عاشراً لتلك العلوم التسعة فحجته فيه أن البلاغة تتصل بكل واحدٍ منها، وقد منح للبلاغة ما منحه الفارابي لعلم اللسان جملةً؛ وموضع المغالطة عند مؤلف الرسالة أنه بدلاً من أن يحدد مفهوم البلاغة وأبعادها تحدث عن البليغ الذي يستطيع بصناعته " سلّ السخائم وحل الشكائم " الذي يجب أن يبرأ من التكلف وأن يحتكم إلى سلاسة الطبع، وبدلاً من أن تجئ البلاغة عنده نتيجةً لا حكام اللغة والنحو وغيرهما من الأدوات جاءت علماً مستقلاً بنفسه، ولم تكن في الواقع كذلك. وبهذا خرج على القسمة الثنائية، كما أغفل علوماً أخرى كانت جديرة باهتمامه.

ويبدو تأثر المؤلف بمن سبقه من المصنفين النظريين حين ألمح بسرعة إلى انقسام كل علمٍ من علوم الأوائل إلى اتجاه عملي وآخر نظري، كذلك هو وضع الطب والنجوم والحساب والهندسة. فمن اقتصر على الجانب العملي منها كان في درجة الصناع ولم يعد في العلماء، ويمكن أن نعد ذكره للتصوف تثراً بإخوان وإن كان حديثه عن التصوف يذكر بأبي حيان، وذلك حين يقول: " اعلم أن التصوف علم يدور بين إشارات إلاهية وعبارات وهمية وأغراض علوية وأفعال دينية وأخلاق ملوكية " (٢) ، ومجيء التصوف في نهاية الجريدة كلها يدل على اضطراب في التقسيم، كما قدمت فإذا عددناه إلحاقاً على أصل الرسالة فإنا لا نستبعد أن يكون المؤلف قد اقتبسه من أبي حيان وبسببه نسبت الرسالة كلها له.


(١) المصدر نفسه: ١٠٩.
(٢) المصدر السابق: ١١٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>