الباطل والفضول، لا من طريق الحق والفضائل، ولا يظن ظان أن هذا علم جهلناه فذممناه، فقد علم من داخلنا أو بلغه أمرنا كيف توسعنا في رواية الأشعار، وكيف تمكنا من الإشراف على معانيها، وكيف وقوفنا على أفانين الشعر ومحاسنه، ومعانيه وأقسامه، وكيف قوتنا على صناعته، وكيف تأتي مقصده ومقطوعه لنا، وكيف سهولة نظمه علينا في الإطالة فيه والتقصير (١) ، ولكن الحق أولى بما قيل.
فإذا بلغ المرء من النحو واللغة إلى الحد الذي ذكرنا فلينتقل إلى علم العدد، فليحكم الضرب والقسم والجمع والطرح والتسمية، وليأخذ طرفاً من المساحة، وليشرف على الأرثماطيقي وهو علم طبيعة العدد وليقرأ كتاب أقليدس قراءة متفهم له، واقفٍ على أغراضه، عارفٍ بمعانيه، فإنه علم رفيع، به يتوصل إلى معرفة نصبة الأرض ومساحتها وتركيب الأفلاك ودورانها ومراكزها وأبعادها، والوقوف على براهين كل ذلك وعلى دوران الكواكب وقطعها في البروج، فهذا علم رفيع جداً يقف به المرء حقيقة تناهي جرم العالم وعلى آثار صنعة الباري في العالم، فلا يبقى له إلا مشاهدة الصانع فقط؛ وأما الصنعة والإدارة والتركيب، فقد شاهد كل ذلك بوقوفه على ما ذكرنا. وبمطالعته كتاب المجسطي يعرف الكسوفات وعروض البلاد وأطوالها والأوقات وزيادة الليل والنهار والمد والجزر ومنازل الشمس والقمر والدراري. وأما الإيغال في المساحة فمنفعته في جلب المياه ورفع الأثقال وهندسة البناء وإقامة الآلات الحكمية.
وأما الاشتغال بأحكام النجوم فلا معنى له، ولا يخلو من أن يكون ما يحكون من قضاياها حقاً أو باطلاً، إذ لا سبيل إلى قسم ثالث، فإن كانت حقاً فما لها فائدة إلا استعجال الهم والغم والبؤس والنكد، لتوقع المرض والنكبات وموت الأحبة وانقطاع كمية العمر ومعرفة فساد المولد. فإن قالوا إنه قد يمكن دفع ما يتوقع من ذلك فقد قضوا بأنها لا حقيقة لها، إذ الحق الحتم لا سبيل إلى رده. وإن كانت باطلاً
(١) بذلك شهد الحميدي تلميذ ابن حزم (الجذوة: ٢٩١) حين قال: وكان له في الآداب والشعر نفس واسع وباع طويل، وما رأيت من يقول الشعر على البديهة أسرع منه، وشعره " كثير ".