للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فأهل (١) أن لا يشتغل به. ونقول قولاً صحيحاً متيقناً ليعلم كل ذي عقل ينصح نفسه بأنه لا سبيل إلى قلب الأنواع وإحالة الطبائع، فمن اشتغل بشيء من هذين العلمين، فإنما هو إنسان محروم مخذول يطلب ما لا يجد أبداً، وبالجملة فليس القضاء بالنجوم علم برهان، وإنما هي تراعي (٢) أبداً، وبالجملة تجارب، وإذ هي كذلك، فباطل بلا شك، لأن التجارب لا تكون إلا بتكرير الحال مراراً كثيرة جداً على صفة واحدة لا تستحيل أبداً (٣) والنصبة التامة من الكواكب لا تعود إلا إلى عشرة آلاف من السنين، ولا سبيل إلى ضبط تجربة مثل هذه إلا بتداول قومٍ متعاقبين لرصد تلك النصب (٤) ؛ وباليقين ندري أنه لا يبقى فيما انحدر عن شرق العمود مملكة عشر الدور، فكيف الدور كله وإذا ذهبت المملكة لم تذهب إلا بحروف وغارات وسوء حال وفساد بلاد وحدوث أخر، وهذا كله يذهب علوم تلك المملكة ورتبها وأرصادها وأكثر أخبارها بل كلها، فلا سبيل مع ذلك إلى اتصال رصد هذه المدة كلها، فكيف يمكن دوام التجربة تكراراً دوراً بعد دور وما عندنا تاريخ أبعد من تاريخ التوراة وليس له إلا ثلاثة آلاف سنة فقط، فأين يقع مما نريد (٥) وأما تاريخ الفرس [فما] عندنا أخبار لهم فاشية محققة إلا عن عهد ملوك الساسانية وذلك أقل من ألف عام، وكذلك تاريخ الروم. وأما تاريخ القبط والسريانيين وأدوم وعمون وموآب وسائر تلك الأمم، فما لهم اليوم في الدنيا خبر ولا أثر، فكيف تبقى أرصاد المدة المذكورة وأما الهند والصين فلم تبلغنا آثارهم كما نريد، ولعل لهم أرصاداً قديمة، فإنهما


(١) ص: أهل.
(٢) ص: تداعى.
(٣) تكلم ابن خلدون في إبطال صناعة النجوم ناقضاً إمكان كمال التجربة فقال: فالمتقدمون منهم يرون أن معرفة قوى الكواكب وتأثيراتها بالتجربة وهو أمر تقصر الأعمار كلها لو اجتمعت عن تحصيله، إذ التجربة إنما تحصل في المرات المتعددة بالتكرار ليحصل عنها العلم أو الظن (مقدمة: ٤٧٧) .
(٤) كرر ابن حزم نقض القضاء بالنجوم في كتابه الفصل (٥: ٣٨) مستدلاً بفكرة استحالة التجربة فقال: " إن التجربة لا تصح إلا بتكرر كثير موثوق بدوامه تضطر النفوس إلى الإقرار به كاضطرارنا إلى الإقرار بأن الإنسان إن بقي ثلاث ساعات تحت الماء مات، وإن أدخل يده في النار احترق ولا يمكن هذا في القضاء بالنجوم لأن النصب الدالة عندهم على الكائنات لا تعود إلا في عشرات آلاف من السنين، لا سبيل إلى أن يصح منها تجربة ".
(٥) ص: فأين يقعان مما أريد.

<<  <  ج: ص:  >  >>