للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سمعت يحيى بن مجاهد الفزاري الزاهد يقول: هذا كان أوان طلبي للعلم إذ قوي فهمي واستحكمت إرادتي. فقلت له: فعلمنا الطريق، لعلنا ندرك ذلك بوصاتك، في استقبال أعمارنا قال: نعم كنت آخذ من [كل] علم طرفاً، فإن سماع الإنسان قوماً يتحدثون وهو لا يدري ما يقولون غمة عظيمة، أو كلاماً هذا معناه. قال أبو محمد: ولقد صدق رحمه الله.

فإذا بلغ الإنسان حيث ذكرنا، أخذ في النظر في حدود المنطق وعلم الأجناس والأنواع والأسماء المفردة والقضايا والمقدمات والقرائن والنتائج ليعرف المرء ما البرهان وما الشغب، وكيف التحفظ مما يظن أنه برهان وليس ببرهان، فبهذا العلم يقف على الحقائق كلها يميزها من الأباطيل تمييزاً لا يبقى معه ريب.

وينظر في الطبيعيات، وعوارض الجو، وتركيب العناصر، وفي الحيوان والنبات والمعادن، ويقرأ كتب التشريح ليقف على محكم الصنعة وتأثير الصانع وتأليف الأعضاء واختيار المدبر وحكمته وقدرته.

فإذا أحكم ذلك في خلال ابتدائه بالنظر في العلوم فلا يكن منه إغفال لمطالعة أخبار الأمم السالفة والخالفة، وقراءة التواريخ القديمة والحديثة ليقف من ذلك على فناء (١) الممالك المذكورة، وخراب البلاد المعمورة، ودثور المدائن المشهورة التي طالما حصنت وأحكمت مبانيها، وذهاب من كان فيها وانقطاعهم، وتقلب الدنيا بأهلها، وذهاب الملوك الذين قتلوا النفوس وظلموا الناس واستكثروا من الأموال والجيوش والعدد ليستديموها لهم (٢) ولأعقابهم فما دامت (٣) لهم، بل ذهبوا وانقطعت آثارهم، ورحل بنوهم وضاعوا، وبقي ما تحملوا من الآثام والذم والذكر القبيح لازماً لأرواحهم في المعاد ولذكرهم في الدنيا، فيحدث له فيها بذلك زهد وقلة رغبة، وليشرف على اغترار الملوك بها، لعظيم الحسرات النازلة بهم وبمخلفيهم، وليقف على حمد المتقين الأخيار للفضائل فيرغب فيها، ويسمع ذمهم للرذائل فيكرهها. ويوفي على


(١) ص: خنا.
(٢) ص: ليستدموا ما هم ولا.
(٣) ص: دام.

<<  <  ج: ص:  >  >>