للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كالغليان، والضربان، والنقدان، والنزوان، وغير ذلك من مما جرى مجراه، فإن حروفه جميعها متحركات، وليس فيها حرف ساكن، وهي مماثلة لحركات الفعل في الوجود.

ومن نظر في حكمة وضع اللغة إلى هذه الدقائق, التي هي كالأطراف والحواشي, فكيف كان يخل بالأصل المعوَّل عليه في تأليف الحروف بعضها إلى بعض? على أنه لو أراد الناظم أو الناظر أن يعتبر مخارج الحروف عند استعمال الألفاظ, وهل هي متباعدة أو متقاربة, لطال الخطب في ذلك وعَسُرَ، وما كان الشاعر ينظم قصيدًا, ولا الكاتب ينشئ كتابًا, إلا في مدة طويلة تمضي عليها أيام وليال ذوات عدد كثير.

ونحن نرى الأمر بخلاف ذلك، فإن حاسَّة السمع هي الحاكمة في هذا المقام بحسن ما يحسن من الألفاظ وقبح ما يقبح.

وسأضرب لك في هذا مثالًا، فأقول: إذا سئلت عن لفظة من الألفاظ, وقيل لك: ما تقول في هذه اللفظة أحسنة هي أم قبيحة? فإني لا أراك عند ذلك إلا تفتي بحسنها أو قبحها على الفور، ولو كنت لا تفتي بذلك حتى تقول للسائل: اصبر إلى أن أعتبر مخارج حروفها, ثم أفتيك بعد ذلك بما فيها من حسن أو قبيح، لصحَّ لابن سنان ما ذهب إليه من جعل مخارج الحروف المتباعدة شرطًا في اختيار الألفاظ, وإنما شذَّ عنه الأصل في ذلك، وهو أن الحسن من الألفاظ يكون متباعد المخارج، فحسن الألفاظ إذن ليس معلومًا من تباعد المخارج، وإنما عُلِمَ قبل العلم بتباعدها.

وكل هذا راجع إلى حاسَّة السمع، فإذا استحسنت لفظًا أو استقبحته وُجِدَ ما تستحسنه متباعد المخارج, وما تستقبحه متقارب المخارج، واستحسانها واستقباحها إنما هو قبل اعتبار المخارج لا بعده.

على أنَّ هذه القاعدة قد شذَّ عنها شواذ كثيرة؛ لأنه قد يجيء في المتقارب من المخارج ما هو حسن رائق.

ألا ترى أن الجيم والشين والياء مخارج متقاربة، وهي من وسط اللسان بينه وبين الحنك، وتسمَّى ثلاثتها "الشجرية", وإذا تراكب منها شيء من الألفاظ جاء حسنًا رائقًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>