فإن قيل "جيش" كانت لفظة محمودة، أو قدمت الشين على الجيم فقيل "شجي" كانت أيضًا لفظة محمودة، ومما هو أقرب مخرجًا من ذلك الباء والميم والفاء، وثلاثتها من الشفة، وتسمَّى "الشفهية"، فإذا نُظِمَ منها شيء من الألفاظ كان جميلًا حسنًا، كقولنا: "فم"، فهذه اللفظة من حرفين هما الفاء والميم، وكقولنا: "ذقته بفمي"، وهذه اللفظة مؤلفة من الثلاثة بجملتها, وكلاهما حسن لا عيب فيه.
وقد ورد من المتباعد المخارج شيء قبيح أيضًا، ولو كان التباعد سببًا للحسن لما كان سببًا للقبح، إذ هما ضدان لا يجتمعان.
فمن ذلك أنه يقال: "ملع"، إذا عدا، فالميم من الشفة، والعين من حروف الحلق, واللام من وسط اللسان، وكل ذلك متباعد، ومع هذا, فإن هذه اللفظة مكروهة الاستعمال، ينبو عنها الذوق السليم، ولا يستعملها من عنده معرفة بفن الفصاحة.
وههنا نكتة غريبة، وهو أنَّا إذا عكسنا حروف هذه اللفظة صارت علم، وعند ذلك تكون حسنة لا مزيد على حسنها.
وما ندري كيف صار القبح حسنًا؟ لأنه لم يتغيِّر من مخارجها شيء، وذاك أن اللام لم تزل وسطًا، والميم والعين يكتنفانها من جانبيها، ولو كان مخارج الحروف معتبرًا في الحسن والقبح لما تغيرت هذه اللفظة في "ملع" و"علم".
فإن قيل: إن إخراج الحروف من الحلق إلى الشفة أيسر من إدخالها من الشفة إلى الحلق، فإن ذلك انحدار وهذا صعود, والانحدار أسهل!.
فالجواب عن ذلك أني أقول: ولو استمرَّ لك هذا لصحَّ ما ذهبت إليه، لكنَّا نرى من الألفاظ ما إذا عكسنا حروفه من الشفة إلى الحلق, أو من وسط اللسان, أو من آخره إلى الحلق, لا يتغير، كقولنا: "غلب"، فإن الغين من حروف الحلق، واللام من وسط اللسان، والباء من الشفة، وإذا عكسنا ذلك صار "بلغ"، وكلاهما حسن مليح.
وكذلك تقول: "حلم" من الحلم، وهو الأناة، وإذا عكسنا هذه الكلمة صارت "ملح"، على وزن فَعُلَ -فتح الفاء وضم العين- وكلاهما أيضًا حسن مليح.
وكذلك تقول: "عقر" و"رقع"، و"عرف" و"فرع"، و"حلف" و"فلح"