للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكانت في زمن العرب العاربة, فإنها قد عيبت على مستعملها في ذلك الوقت، فكيف الآن وقد غلب على الناس رقة الحَضَر?

وبعد هذا, فاعلم أنَّ الألفاظ تجري من السمع مجرى الأشخاص من البصر.

فالألفاظ الجزلة تُتَخَيَّل في السمع كأشخاص عليها مهابة ووقار.

والألفاظ الرقيقة تتخيل كأشخاص ذي رماثة ولين أخلاق ولطافة مزاج.

ولهذا ترى ألفاظ أبي تمام كأنها رجال قد ركبوا خيولهم، واستلأموا سلاحهم، وتأهبوا للطراد, وترى ألفاظ البحتري كأنها نساء حسان عليهنّ غلائل مصبغات, وقد تحلَّيْن بأصناف الحلي.

وإذا أنعمت نظرك فيما ذكرته ههنا قد دللتك على الطريق، وضربت لك أمثالًا مناسبة.

واعلم أنه يجب على الناظم والناثر أن يجتنبا ما يضيق به مجال الكلام في بعض الحروف، كالثاء والذال والخاء والشين والصاد والطاء والظاء والعين، فإن في الحروف الباقية مندوحة عن استعمال لا يحسن من هذه الأحرف المشار إليها.

والناظم في ذلك أشد ملامة؛ لأنه يتعرض لأَنْ ينظم قصيدة ذات أبيات متعددة, فيأتي في أكثرها بالبشع الكريه الذي يمجُّه السمع لعدم استعماله، كما فعل أبو تَمَّام في قصيدته الثائية التي مطلعها:

قف بالطلول الدَّارسات علاثا١

وكما فعل أبو الطيب المتنبي في قصيدته الشينية التي مطلعها:

مبيتي من دمشق على فراش٢

وكما فعل ابن هانئ المغربي٣ في قصيدته الخائية التي مطلعها:

سرى وجناح الليل أقتم أفتخ


١ ديوان أبي تمام ٦٣، وعجز البيت:
أضحت حبال فطينهن رثاثا
٢ ديوان المتنبي ٢/ ٢٠٧ وعجز البيت:
حشاء لي بحر حشاي حاش
هو أبو القاسم محمد بن هانئ الأزدي الأندلسي، أشعر شعراء الأندلس, والملقَّب بمتنبي المغرب، نشأ في أشبيلية واتهم بسوء العقيدة، فهرب إلى عدوة المغرب، وكانت في قبضة الفاطميين الأولين، فمدح المعز قبل فتح مصر، وفي أثنائه، ولما فتحت مصر وذهب المعز إليها تأهَّبَ للحاق به، فمات في الطريق سنة ٣٦٢هـ، ولم يناهز الأربعين، ويمتاز شعره بالغريب، وفخامة اللفظ، والأساليب البدوية، وكثرة التشبيهات والمجاز.

<<  <  ج: ص:  >  >>