للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

استخدامهم، ويتصرَّف في سياستهم بين رفق من غير ضعف، وخشونة في غير عنف، مثيبًا لمحسنهم ما زاد بالإثابة في حسن الأثر، وسَلِمَ معها من دواعي الأشر، ومتغمِّدًا لمسيئهم ما كان التغمُّد له نافعًا، وفيه ناجعًا، فإن تكرَّرت زلَّاته، وتتابعت عثراته، تناولته من عقوبته بما يكون له مصلحًا، ولغيره واعظًا، وأن يختصَّ أكابرهم وأماثلهم وأهل الرأي والخطر منهم بالمشاورة في المُلِمِّ، والاطِّلاع على بعض المهمّ، مستخلصًا مخايل صدورهم بالبسط والإدناء، ومستشحذًا بصائرهم بالإكرام والاحتباء، فإنَّ في مشاورة هذه الطبقة استدلالًا على مواقع الصواب، وتحرُّزًا عن غلط الاستبداد، وأخذًا بمجامع الحزامة، وأمنًا من مفارقة الاستقامة، وقد حضَّ الله -عز وجل- على الشورى حيث قال لرسوله -صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} ١.

وأمره بأن يصمد بما يتَّصل بنواحيه من ثغور المسلمين، ورباط المرابطين، ويقسِمَ لها قسمًا وافرًا من عنايته، ويصرف إليها طرفًا بل شطرًا من رعايته، ويختار لها أهل الجلد والشدة، وذوي البأس والنجدة، ممن عجمته الخطوب، وعركته الحروب، واكتسب دربه بخدع المتنازلين، وتجربة بمكايد المتقارعين، وأن يستظهر بكشف عدَدَهِم، واعتبار عُدَدِهم، وانتخاب خَيْلِهم، واستجادة أسلحتهم، غير مُجَمِّرٍ٢ بعثًا إذا بعثه، ولا مستكرهه إذا وجَّهه، بل يناوب بين رجاله مناوبةً تريحهم ولا تمدهم، وترفههم ولا تئودهم، فإن في ذلك من فائدة الإجمام، والعدل في الاستخدام زينًا, فليسوِّ بين رجال النّوب فيما عاد عليهم بعز الظفر والنصر، وبُعْدِ الصيت والذكر، وإحراز النفع والأجر، ما يحقّ أن يكون الولاة به عاملين، وللناس عليه حاملين، وأن يكرر في أسماعهم، ويثبت في قلوبهم، مواعيد الله تعالى لمن صبر ورابط, وسامح بالنفس, من حيث لا يقدمون على تورّط غرة، ولا يحجمون عن انتهاز فرصة، ولا ينكصون عن تورد معركة، ولا يلقون بأيديهم إلى التهلكة، فقد أخذ الله ذلك على خلقه، والمرء أمين على دينه.


١ سورة آل عمران: الآية ١٥٩.
٢ التجمير: حبس الجيش في أرض العدو.

<<  <  ج: ص:  >  >>