وقد كفاك من المساعي أنك كفيت الخلافة أمر منازعيها, وطمست على الدَّعوة الكاذبة التي كانت تدعيها، ولقد مضى عليها زمن ومحراب حقها محفوف من الباطل بمحرابين، ورأت ما رآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من السوارين اللذين أولهما كذابين، فبمصر منهما واحدٌ تاه بمجرى أنهارها من تحته، ودعا الناس إلى عبادة طاغوته وجبته، ولعب بالدين حتى لم يدر يوم جمعته من يوم أحده ولا يوم سبته، وأعانه على ذلك قوم رمى الله بصائرهم بالعمي والصمم، واتخذوه صنمًا بينهم, ولم تكن الضلالة هناك إلا بعجلٍ أو صنم، فقمت أنت في وجه باطله حتى قعد، وجعلت في جيده حبلًا من مسد، وقلت ليده تبت فأصبح وهو لا يسعى بقدم ولا يبطش بيد، وكذلك فعلت بالآخر الذي نجمت باليمن ناجمته، وسامت فيه سائمته، فوضع بنية الكعبة اليمانية، وقال: هذا هو ذو الخلصة الثانية١، فأيُّ مقاميك يعترف الإسلام بسبقه? أم أيها يقوم بأداء حقه?
وههنا فليصبح القلم للسيف من الحسَّاد، وليقصر مكانته عن مكانته وقد كان له من الأنداد، ولم يحظ بهذه المزية إلّا لأنه أصبح لك صاحبًا، وفخر بك حتى طال فخرًا عمَّا عزَّ جانبًا، وقضى بولايتك فكان بها قاضيًا لما كان حده قاضبًا.
وقد قلَّدك أمير المؤمنين البلاد المصرية واليمنية غورًا ونجدًا، وما اشتملت عليه رعية وجندًا، وما انتهت إليه أطرافها برًّا وبحرًا، وما يستنقذ من مجاوريها مسالمة وقهرًا، وأضاف إليها بلاد الشام وما تحتوي عليه من المدن الممدَّنة، والمراكز المحصَّنة، مستثنيًا منها ما هو بيد نور الدين إسماعيل بن نور الدين محمود -رحمه الله، وهو "حلب" وأعمالها، فقد مضى أبوه عن آثار في الإسلام ترفع ذكره في الذاكرين، وتخلفه في عقبه في الغابرين، وولده هذا قد هذَّبته الفطرة في القول والعمل، وليست هذه الربوة إلّا من ذلك الجبل، فليكن له منك جارٌ يدنو منه ودادًا، كما دنا أرضًا، ويصبح وهو له كالبنيان يشد بعضه بعضًا.
والذي قدَّمناه من الثناء عليك ربما تجاوز بك درجة الاقتصاد، ولفتك عن
١ ذو الخلصة -محركة بفتحتين وبضمتين: بيت كان يدعى الكعبة اليمانية لخثعم, كان فيه صنم اسمه الخلصة.