للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

$"يا أبا ذر, إني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمَّرنَّ على اثنين، ولا تولّين مال يتيم" فانظر إلى هذا القول النبويّ نظر من لم يخدع بحديث الحرص والآمال، ومثِّل الدنيا وقد سيقت إليك بحذافيرها, أليس مصيرها إلى الزوال؟ والسعيد إذا جاءته قضى بها أرب الأرواح لا أرب الجسوم، واتخذ منها -وهي السم- دواء، وقد تتخذ الأدوية من السموم، وما الاغتباط بما يختلف على تلاشيه المساء والصباح، وهو كما أنزلناه من السماء, فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيمًا تذروه الرياح.

والله يعصم أمير المؤمنين وولاة أمره من تباعتها التي لابستهم ولابسوها، وأحصاها الله عليهم ونسوها، ولك أنت من هذا الدعاء حظّ على قدر محلك من العناية التي جذبت بصبعك١، ومحلك من الولاية التي بسطت من درعك، فخذ هذا الأمر الذي تقلَّدته أخذ من لم يتعقبه بالنسيان, وكن في رعايته ممن إذا نامت عيناه كان قلبه يقظان.

وملاك ذلك كله في إسباغ العدل الذي جعله الله ثالث الحديث والكتاب، وأغنى بثوابه وحده عن أعمال الثواب، وقدَّر يومًا منه بعبادة ستين عامًا في الحساب، ولم يأمر به آمِرٌ إلّا زيد قوة في أمره، وتحصَّن به من عدوه ومن دهره، ثم يجاء به يوم القيامة وفي يديه كتابا أمان، ويجلس على منبر من نور عن يمين الرحمن، ومع هذا, فإن مركبه صعب لا يستوي على ظهره إلّا من أمسك عنان نفسه قبل إمساك عنانه، وغلبت لمة ملكه على لمة شيطانه، ومن أوكد فروضه أن يمحي السنن السيئة التي طالت مدد أيَّامها، ويئس الرعايا من رفع ظلاماتها, فلم يجعلوا أمدًا لانحسار ظلامها، وتلك السنن هي المكوس التي أنشأتها الهمم الحقيرة، ولا غنى للأيدي الغنية إذا كانت ذات نفوس فقيرة، وكلما زيدت الأموال الحاصلة منها قدرًا زادها الله محقًا، وقد استمرَّت عليها العوائد حتى ألحقها الظالمون بالحقوق الواجبة فسموها حقًّا، ولولا أنَّ صاحبها أعظم الناس جرمًا لما أغلظ في عقابه، ومثِّلت توبة المرأة الغامدية


١ الضبع: العضد كلها، وأوسطها يلحمها، أو ما بين الإبط إلى نصف العضد من أعلاه.

<<  <  ج: ص:  >  >>