للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فيا عارضًا للعرف أقلع مُزْنُهُ ... ويا واديًا للجود جفَّت مسايله

ألم تراني أنزفت عيني على أبي ... محمدٍ النجم المغيَّب١ آفله

وأخضلتها فيه كما لو أتيته ... طريد الليالي أخضلتني٢ نوافله

وهذا من أحسن ما يجيء في هذا الباب, وليس بمتكلف كشعر أبي العلاء، فإن حسن هذا مطبوع، وحسن ذاك مصنوع.

وكذلك أقول في غير اللزوم من الأنواع المذكورة أولًا، فإن الألفاظ إذا صدرت فيها عن سهولة خاطر وسلاسة طبع, وكانت غير مستجلبة ولا متكلفة, جاءت غير محتاجة إلى التأنُّق، ولا شكّ أن صورة الخلقة غير صورة التخلق.

فإن قيل: ما الفرق بين المتكلَّف من هذا الأنواع وغير المتكلف?

قلت في الجواب:

أما المتكلَّف فهو الذي يأتي بالفكرة والرويَّة، وذلك أن ينضى الخاطر في طلبه، ويبعث على تتبعه واقتصاص أثره، وغير المتكلَّف يأتي مستريحًا من ذلك كله، وهو أن يكون الشاعر في نظم قصيدته, أو الخطيب أو الكاتب في إنشاء خطبته أو كتابته، فبينا هو كذلك إذا سنَحَ له نوع من هذه الأنواع بالاتفاق لا بالسعي والطلب، ألا ترى أن قول أبي نواس٣ في مثل هذا الموضع:

أترك الأطلال لا تعبأ بها ... إنها من كل بؤسٍ دانيه

وانعت الراح على تحريمها ... إنما دنياك دارٌ فانيه

من عُقَارِ من رآها قال لي ... صيدت الشَّمس لنا في آنيه٤

وعلى هذه السهولة واللطافة ورد قوله أيضًا:

كم من غلامٍ ذي تحاسين ... أفسده ناطف ياسين٥


١ في الأصل "المشرق".
٢ في الأصل "أخلصتها" و"أخلصتني", ومعنى أخضلتها: بللتها، والنوافل: العطايا.
٣ ديوان أبي نواس ٣٥١.
٤ رواية الديوان "في باطية", والباطية: الناجود؛ وهو الخمر وإناؤها.
٥ الناطف: ضرب من الحلوى يصنع من الجوز واللوز والفستق.

<<  <  ج: ص:  >  >>