فانظر إلى حرف الحاء كيف قد لزمه في كل لفظة من هذه الألفاظ, فجاء كما تراه من الثقل والغثاثة?
واعلم أن العرب الذين هم الأصل في هذه اللغة قد عَدَلُوا عن تكرير الحروف في كثير من كلامهم، وذاك أنه إذا تكرَّر الحرف عندهم أدغموه استحسانًا, فقالوا في "جعل لك"، "جعلَّك"، وفي "تضربونني"، "تضربونِّي"، وكذلك قالوا:"استعدَّ فلان للأمر"، إذا تأهَّب له، والأصل فيه "استعدد" و"استتبَّ الأمر"، إذا تهيأ، والأصل فيه "استتبب"، وأشباه ذلك كثير في كلامهم، حتى إنهم لشدة كراهتهم لتكرير الحروف أبدلوا أحد الحرفين المكررين حرفًا آخر غيره، فقالوا:"أمليت الكتاب"، والأصل فيه "أمللت"، فأبدلوا اللام ياء طلبًا للخفة، وفرارًا من الثقل, وإذا كان قد فعلوا ذلك في اللفظة الواحدة، فما ظنُّك بالألفاظ الكثيرة التي يتبع بعضها بعضًا?
القسم الثالث من المعاظلة:
أن ترد ألفاظ على صيغة الفعل يتبع بعضها بعضًا.
فمما ما يختلف بين ماض ومستقبل، ومنها ما لا يختلف.
فالأول: كقول القاضي الأرجاني١ في أبيات يصف فيها الشمعة، وفيها معنًى هو له مبتدع، ولم يسمع من غيره، وذلك أنه قال عن لسان الشمع، إنه ألَّف العسل وهو أخوه الذي رُبِّيَ معه في بيت واحد، وإن النار فرَّقت بينه وبينه، وإنه نذر أن يقتل نفسه بالنار أيضًا من ألم الفراق، إلا أنَّه أساء العبارة فقال:
بالنار فرَّقَت الحوادث بيننا ... وبها نذرت أعود أقتل روحي
١ هو أبو بكر أحمد بن محمد بن الحسين الأرجاني، الملقَّب: ناصح الدين، وكان قاضي تستر وعسكر مكرم، وله شعر رائق في نهاية الحسن، ذكره العماد الكاتب في الجريدة، فقال: كان الأرجاني في عنفوان عمره بالمدرسة النظامية بأصبهان، وشعره من آخر عهد نظام الملك منذ سنة نيف وثمانين وأربعمائة, إلى آخر عهده وهو سنة أربع وأربعين وخمسمائة, ولم يزل نائب القاضي بعسكر مكرم وهو مبجل مكرم، وشعره كثير، والذي جمع منه لا يكون عشره.