للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كان يسميه "الشاعر" ويسمي غيره من الشعراء باسمه، وكان يقول: ليس في شعره لفظة يمكن أن يقوم عنها ما هو في معناها, فيجيء حسنًا مثلها!

فيا ليت شعري, أما وقف على هذا البيت المشار إليه!؟ لكنَّ الهوى كما يقال أعمى، وكان أبو العلاء أعمى العين خلقةً وأعماها عصبيةً، فاجتمع له العمى من جهتين.

وهذه اللفظة التي هي "حالل" وما يجري مجراها قبيحة الاستعمال, وهي فك الإدغام في الفعل الثلاثي، ونقله إلى اسم فاعل، وعلى هذا, فلا يحسن أن يقال: بلّ الثوب فهو بالل، ولا سلَّ السيف فهو سالل، ولا أن يقال: همَّ بالأمر فهو هامم، ولا خطَّ الكتاب فهو خاطط، ولا حنَّ إلى كذا فهو حانن!!

وهذا لو عرض على من لا ذوق له لأدركه وفهمه، فكيف من له ذوق صحيح كأبي الطيب, لكن لا بُدَّ لكل جواد من كبوة.

وأنشد بعض الأدباء بيتًا لدعبل١، وهو:

شفيعك فاشكر في الحوائج إنه ... يصونك عن مكروهها وهو يخلق

قلت له: عجز هذا البيت حسن، وأما صدره فقبيح، لأنه سبكه قلقًا نافرًا، وتلك الفاء التي في قوله: "شفيعك فاشكر" كأنها ركبة البعير، وهي في زيادتها كزيادة الكرش.

فقال: لهذه الفاء في كتاب الله أشباه كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ٢.

فقلت له: بين هذه الفاء وتلك الفاء فرق ظاهر يدرك بالعلم أولًا، وبالذوق ثانيًا.


١ هو دعبل بن علي بن رزين، يمنيّ من خزاعة، نشأ بالكوفة متعصبًا لقومه على العدنانية، هجَّاء خبيث اللسان، لا يسلم منه كبير ولا صغير حتى الخلفاء، فعاش مكروهًا مرهوبًا, حتى توفي سنة ٢٤٦هـ، وشعره من النوع المطبوع ذي الأسلوب القويّ، لتأثُّره بنزعته الجريئة في وجه الدولة، وبتعصبه للطالبين، وبميله إلى الإرهاب والتخريف، ويغلب على شعره الهجاء والمديح.
٢ الموازنة ٥٩, والصناعتين ٢١٣, وقبل هذا البيت:
وإن امرأ أسدى إليّ بشافع ... إليه ويرجو الشكر منِّي لأحمق
٣ سورة المدثر: الآيات ١-٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>