للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذه أبيات حسنة قد استوعبت أقسام هذا المعنى المقصود، إلا أن فيها مأخوذًا من شعر مسلم بن الوليد الأنصاري١، وهو قوله:

نصبته حيث ترتاب الرياح به ... وتحسد الطير فيه أضبع البيد

لكن البحتري زاد في ذلك زيادة حسنة، وهي قوله: "وهو في غير حالة المحسود".

ومن هذا الضرب ما جاء في شعر أبي الطيب المتنبي في وصفه الحمى، وهو قوله٢:

وزائرتي كأن بها حياءً ... فليس تزور إلا في الظلام

بذلت لها المطارف والحشايا ... فعافتها وباتت في عظامي

كأن الصبح يطردها فتجري ... مدامعها بأربعةٍ سجام٣

أراقب وقتها من غير شوقٍ ... مراقبة المشوق المستهام

وقد شرح أبو الطيب بهذه الأبيات حاله مع الحمى.

ومن بديع ما أتي به في هذا الموضع أن سيف الدولة بن حمدان٤ كان مخيمًا


١ ديوان ١٢١ من قصيدة في مدح داود بن يزيد بن حاتم بن خالد بن المهلب، ومطلعها:
لا تدع بي الشوق إني غير معمود ... نهى النهي عن هوى الهيف الرعاديد
٢ ديوانه ٤/ ١٤٢ من قصيدته في ذكر الحمى التي كانت تغشاه بمصر. ومطلعها:
ملومكما يجل عن الملام ... ووقع فعاله فوق الكلام
٣ بأربعة سجام: أي ذات سجام، وأراد بالأربعة اللحاظين، والموقين للعينين، فإن الدمع يجري من الموقين، فإن غلب وكثر جرى من اللحاظ أيضا، والمعنى أن الحمى تفارقه عند الصبح، فكأن الصبح يطردها، وأنها إذا فارقته تجري مدامعها عن أربعة سجام يريد كثيرة الرحضاء، وهو عرق الحمى -فكأنها تبكي عند فراقه محبة له.
٤ هو سيف الدولة أبو الحسن علي، صاحب حلب، ممدوح المتنبي، وكان سيف الدولة أديبا شاعرا نقادا للشعر، يحب جيده، ويطرب لسماعه، وكان يقرب الشعراء وأهل الأدب، حتى قيل: إنه لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر، وكان بجالس الشعراء، وينقد أشعارهم نقدا يدل على شاعرية وعلم، ويبذل لهم الجوائز السنية، توفي سنة ٣٥٦هـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>