للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تستخرج بالفكرة والروية، والفكرة والروية فيهما خفاء وغموض، فكان استعارة الأودية لها أشبه وأليق.

والاستعارة في القرآن قليلة، لكن التشبيه المضمر الأداة كثير، وكذلك هي في فصيح الكلام من الرسائل، والخطب والأشعار؛ لأن طي المستعار له لا يتيسر في كل كلام، وأما التشبيه المضمر الأداة فكثير سهل، لمكان إظهار المشبه والمشبه به معًا.

ومما ورد من الاستعارة في الأخبار النبوية قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "لا تستضيئوا بنار المشركين"، فاستعار النار للرأي والمشورة: أي لا تهتدوا برأي

المشركين، ولا تأخذوا بمشورتهم.

وروي عنه "أنه دخل يومًا مصلاه، فرأى أناسًا كأنهم يكثرون، فقال: "أما إنكم لو أكثرتم من ذكر هاذم اللذات لشغلكم عما أرى"، وهاذم اللذات أراد به الموت، وهو مطوي الذكر.

وبلغني عن العرب أنهم يقولون عند رؤية الهلال: "لا مرحبًا باللجين مقرب أجل ومحل"، وهذا من باب الاستعارة في طي ذكر المستعار له.

وكذلك بلغني عن الحجاج بن يوسف١ أنه خطب خطبة عند قدومه العراق في أول ولايته إياه، والخطبة مشهورة من جملتها أنه قال: إن أمير المؤمنين نثل٢ كنانته، وعجمها٣ عودًا عودًا، فرآني أصلبها نجارًا، وأقومها عودًا وأنفذها


١ هو أبو محمد الحجاج بن يوسف الثقفي ولد سنة ٥٤١، وتربى في الإيلام مع الاحتفاظ بشخصية جاهلية عنيفة، ظهرت آثارها في أعماله وفي كلامه، وقد ولى عدة مناصب لبني أمية، واشتهر بالخطابة القوية وسياسة العنف، وتوفي سنة ٥٩٥.
٢ نثل الكنانة: استخرج نبلها فنثرها.
٣ الكنانة جعبة السهام، وعجم عيدانها عضها لينظر أيها أصلب، وهذا وما بعدها كناية عن أنه اختبر أعوانه، فوجد الحجاج أصلحهم لحكم العراق.

<<  <  ج: ص:  >  >>