للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نصلًا، فقوله: "نثل كنانته، وعجمها عودًا عودًا" يريد أنه عرض رجاله، واختبرهم واحدًا واحدًا جد اختباره، فرآني أشدهم وأمضاهم.

وهذا من الاستعارة الحسنة الفائقة.

وقد جاءني من الاستعارة في رسائلي ما أذكر شيئًا منه، ولو مثالًا واحدًا.

وذلك أنه سألني بعض الأصدقاء أن أصف له غلامين تركيين كان يهواهما، وكان أحدهما يلبس قباء أحمر، والآخر قباء أسود: فقلت:

"إذا تشعبت أسباب الهوى كانت لسره أظهر، وأضحت أمراضه خطرًا كلها، ولا يقال في أحدها: هذا أخطر، وقد هويت بدرين على غصنين، ولا طاقة للقلب بهوى واحد، فكيف إذا حمل هوى اثنين؟، ومما شجاني أنها يتلونان في أصباغ الثياب، كما يتلونان في فنون التجرم والعتاب، وقد استجدا الآن زيًا لا مزيد على حسنهما في حسنه، فهذا يخرج في ثوب من حمرة خده، وهذا في ثوب من سواد جفنه، وما أدري من دلهما على هذا العجيب، غير أنه على فتنة المحب أهدى من حبيب".

وهذا من الفصل بجملته مما تواصفه الناس، وأغروا بحفظه.

وأما ما ورد من ذلك شعرًا، فكقول مسكين الدارمي١ من شعراء الحماسة:


١ اسمه ربيعة بن عامر يصل نسبه إلى دارم بن مالك، وسمي مسكينا لقوله:
أنا مسكين لمن أنكرني ... ولمن يعرفني جد نطق
وهو شاعر شريف إسلامي، كان في عهد بني أمية، وهو سيد من سادات قومه، هاجى الفرزدق ثم تكافئا، فكان الفرزدق يعد ذلك من الشدائد التي أقلت منها، قال الفرزدق: نجوت من ثلاثة أشياء لا أخاف بعدها شيئا: نجوت من زيادة حين طلبني، ونجوت من بني رميلة، وقد نذرا أدمى وما فاتهما أحد طلباه، ونجوت من مهاجاة مسكين الدارمي؛ لأني لو طاولت معه الهجاء لاضطرني أن أهدم شطر حسي وفخري: لأنه من بحبوبة نسبي، وأشراف عشيرتي.

<<  <  ج: ص:  >  >>