للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعلى كثرة ما حفظته من اِلأشعار لم أجد ما أمثل به هذا القسم إلا مثالًا واحدًا، وهو قول أبي تمام في وصف الربيع١:

يا صاحبي تقصيا نظريكما ... تريا وجوه الأرض كيف تصور

تريا نهارًا مشمسًا قد شابه ... زهر الربا فكأنما هو مقمر

فشبه النهار المشمس مع الزهر الأبيض بضوء القمر، وهو تشبيه حسن واقع في موقعه مع ما فيه من لطف الصنعة.

ولربما اعترض في هذا الموضع معترض، وقال: إنك أوردت هذا القسم من التشبيه، وذكرت أنه قليل، وليس كذلك فإن تشبيه شيئين بشيء واحد كثير، كقول أبي الطيب المتنبي٢:

تشرق أعراضهم وأوجههم ... كأنها في نفوسهم شيم

فشبه إشراق الأعراض، والوجوه بإشراق الشيم.

الجواب عن ذلك أني أقول: هذا البيت المعترض به على ما ذكرته ليس كالذي ذكرته، فإن أردت أن يشبه شيئان هما كشيء واحد في الاشتراك بشيء واحد.

ألا ترى أن نور الشمس مع بياض الزهر -وهما شيئان مشتركان- قد شبها بضوء القمر، وأما هذا البيت الذي لأبي الطيب المتنبي، فإنه تشبيه شيئين كل واحد منهما مفرد برأسه بشيء واحد؛ لأنه شبه إشراق الأعراض، وإشراق الوجوه بإشراق الشيم، وهذا غير ما أردته أنا.


١ ديوان أبي تماء ١٥٧ من قصيدة له في مدح المعتصم، ومطلعها:
رقت حواشي الدهر فهي تمرمر ... وغدا الثرى في حليه يتكسر
٢ ديوان المتنبي ٤/ ٥٨ من قصيدة له مدح علي بن إبراهيم التنوخي، مطلعها:
أحق عاف بدمعك الهمم ... أحدث شيء عهدا بها القدم
قال أبو الفتح بن جني: سألته -المتنبي- عن معنى هذا البيت، فقال: أحق ما صرفت إليه بكاءك همم الناس؛ لأنها قد عفت ودرست، فصار أحدثها عهدا قديما، وقال الخطيب: أحق عاف بأن يبكي عليه همم الكرام؛ لأنه عفت كما تعفو الربوع، فهي أحق بدمعك من كل الدارسات، وجعل القدم أحدث الأشياء عهدا بالهمم، أي دروسها قديم، فلا همم في الأرض.

<<  <  ج: ص:  >  >>