للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتركت للناس الإهاب وما بقي ... من فرثه١ وعروقه وعظامه

والقبح الفاحش في البيت الثاني.

وكل هذا التعسف في التشبيه البعيد دندنة حول معنى ليس بطائل؛ فإن غرضه أن يقول: ذهب بالأعلى وترك للناس الأدنى، أو ذهبت بالجيد، وتركت للناس الرديء.

وقد عيب عليه قوله٢:

لا تسقني ماء الملام فإنني ... صبٌ قد استعذبت ماء بكائي

وقيل: إنه جعل للملام ماء، وذلك تشبيه بعيد، وما بهذا التشبيه عندي من بأس، بل هو من التشبيهات المتوسطة التي لا تحمد ولا تذم، وهو قريب من وجه، بعيد من وجه.

أما مناسب قربه فهو أن الملام هو القول الذي يعنف به الملوم لأمر جناه، وذاك مختصٌ بالسمع، فنقله أبو تمام إلى السقيا التي هي مختصة بالحلق، كأنه قال: لا تذقني الملام، ولو تهيأ له ذلك مع وزن الشعر لكان تشبيهًا حسنًا، لكنه جاء بذكر الماء، فحط من درجته شيئًا، ولما كان السمع يتجرع الملام أولًا كتجرع الحلق الماء صار كأنه شبيه به، وهو تشبيه معنى بصورة.

وأما سبب بعد هذا التشبيه فهو أن الماء مستلذ، والملام مستكره، فحصل بينهما مخالفة من هذا الوجه.

فهذا التشبيه إن بعد من وجه فقد قرب من وجه فيغفر هذا لهذا، ولذلك جعلته من التشبيهات المتوسطة التي لا تحمد ولا تذم.

وقد روي -وهو رواية ضعيفة- أن بعض أهل المجانة أرسل إلى أبي تمام قارورةً؛


١ الإهاب الجلد، والفرث السرجين في الكرش.
٢ ديوان أبي تمام ٣، والبيت ثاني أبيات قصيدة له في مدح يحيى بن ثابت، ومطلعها:
قدك أتئب أربيت في الغلواء ... كم تعذلون وأنتم سجراني

<<  <  ج: ص:  >  >>