للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال: ابعث في هذه شيئًا من ماء الملام، فأرسل إليه أبو تمام، وقال: إذا بعثت إلي ريشة من "جناح الذل" بعثت إليك شيئًا من ماء الملام!

وما كان أبو تمام ليذهب عليه الفرق بين هذين التشبيهين، فإنه ليس جعل الجناح للذل كجعل الماء للملام، فإن الجناح للذل مناسب، وذاك أن الطائر إذا وهن أو تعب بسط جناحه، وخفضه وألقى نفسه على الأرض، وللإنسان أيضًا جناح، فإن يديه جناحاه وإذا خضع، واستكان طأطأ من رأسه، وخفض من يديه، فحسن عند ذلك جعل الجناح للذل، وصار تشبيهًا مناسبًا، وأما الماء للملام، فليس كذلك في مناسبة التشبيه.

وأما التشبيه المضمر الأداة من هذا الباب، فقد أوردت له أمثلة يستدل بها على أشباهه وأمثاله، فإن لذكر المثال فائدة لا تكون الحد وحده.

فمن ذلك قول بعضهم:

ملا حاجبيك الشيب حتى كأنه ... ظباءٌ جرت منها سنيحٌ وبارح

وكذلك قول الآخر يصف السهام:

كساها رطيب الريش فاعتدلت له ... قداحٌ كأعناق الظباء الفوارق

فإنه شبه السهام بأعناق الظباء، وذلك من أبعد التشبيهات.

وعلى نحو منه قول الفرزدق١:

يمشون في حلق الحديد كما مشت ... جرب الجمال بها الكحيل المشعل٢

فشبه الرجال في دروع الزرد بالجمال الجرب، وهذا من التشبيه البعيد؛ لأنه إن أراد السواد، فلا مقاربة بينهما في اللون؛ لأن لون الحديد أبيض، ومن أجل ذلك سميت السيوف بالبيض، ومع كون هذا التشبيه بعيدًا، فإنه تشبيه سخيف.


١ ديوان الفرزدق ٢/ ٧١٥ من قصيدته التي أولها:
إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا ... دعائمه أعز وأطول
٢ الكحيل القطران، وحلق الحديد الدروع، والمشعل الحديدة التي يحرق بها الجلد، ويروى "كأنهم" موضع "كما مشت".

<<  <  ج: ص:  >  >>