للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإنما صرف الكلام عن خطاب نفسه إلى خطابهم؛ لأنه أبرز الكلام لهم في معرض المناصحة، وهو يريد مناصحتهم ليتلطف بهم ويداريهم؛ لأن ذلك أدخل في إمحاض النصح حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه، وقد وضع قوله: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} ، مكان قوله: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم؟، ألا ترى إلى قوله: {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، ولولا أنه قصد ذلك لقال: الذي فطرني وإليه أرجع، وقد ساقه ذلك المساق إلى أن قال: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} ١.

فانظر أيها المتأمل إلى هذه النكت الدقيقة التي تمر عليها في آيات القرآن الكريم، وأنت تظن أنك فهمت فحواها، واستنبطت رموزها.

وعلى هذا الأسلوب يجري الحكم في الرجوع من خطاب النفس إلى خطاب الواحد، كقوله تعالى: {حم، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ٢.

والفائدة ههنا في الرجوع من خطاب النفس إلى خطاب الواحد تخصيص النبي -صلى الله عليه وسلم: "بالذكر، والإشارة بأن إنزال الكتاب إنما هو إليه، وإن لم يكن ذلك صريحًا، لكن مفهوم الكلام يدل عليه".

وإذا تأملت مطاوي القرآن الكريم، وجدت فيه من هذا وأمثاله أشياء كثيرة، وإنما اقتصرنا على هذه الأمثلة المختصرة ليقاس عليها ما يجري على أسلوبها.

وقد ورد في فصيح الشعر شيء من ذلك، كقول أبي تمام٣:

وركب يساقون الركاب زجاجة ... من السير لم تقصد لها كف قاطب٤


١ سورة يس، الآية ٢٥.
٢ سورة الدخان الآيات: ١ و٢ و٣ و٤ و٥ و٦.
٣ ديوان أبي تمام ٤١ من قصيدة يمدح فيها أبا دلف القاسم بن عيسى العجلي، ومطلعها:
على مثلها من أربع وملاعب ... أذيلت مصنوعات الدموع السواكب
٤ قاطب مازج الخمر بالماء.

<<  <  ج: ص:  >  >>