للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"لأنك أنت الأعلى"؛ لأنه لم يجعل علة انتفاء الخوف عنه كونه عاليا، وإنما نفى الخوف عنه أولًا بقوله: {لَا تَخَفْ} ، ثم استأنف الكلام، فقال: {إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} ، فكان ذلك أبلغ في إيقان موسى عليه السلام بالغلبة والاستعلاء، وأثبت لذلك في نفسه.

وربما وقع لبعض الأغمار أن يعترض على ما ذكرناه في توكيد أحد الضميرين بالآخر، فيقول: لو كان توكيدهما أبلغ من الاقتصار على أحدهما لورد ذلك عند ذكر الله تعالى نفسه، حيث هو أولى بما هو أبلغ وأوكد من القول، وقد رأينا في القرآن الكريم مواضع تختص بذكر الله تعالى، وقد ورد فيها أحد الضميرين دون الآخر، كقوله عز اسمه: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ١، ولم يقل: إنك أنت على كل شيء قدير، فما الموجب لذلك إن كان توكيد أحد الضميرين بالآخر أبلغ من الاقتصار على أحدهما! ?

الجواب عن ذلك أنا نقول: قد قدمنا القول في أول هذا النوع أنه إذا كان المعنى المقصود معلوما ثابتا، فصاحب الكلام مخير في توكيد أحد الضميرين بالآخر، فإن أكد فقد أتى بفضل بيان، وإن لم يؤكد؛ فلأن ذلك المعنى ثابت لا يفتقر في تقريره إلى زيادة تأكيد، كهذه الآية المشار إليها، وهي قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} ، فإن العلم بأن الله على كل شيء قدير لا يفتقر إلى تأكيد يقرره.

وقد ورد ما يجري مجرى هذا الآية مؤكدًا، كقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} ٢.

فأكد هذه الآية، ولم يؤكد في الآية الأخرى، وقد عرفتك الطريق في ذلك.


١ سورة آل عمران: الآية ٢٦.
٢ سورة المائدة: الآية ١١٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>