للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكذلك ورد قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} ١، أي للطريقة، أو الحالة، أو الملة التي هي أقومها وأسدها، وأي ذلك قدرت لم تجد له مع الإفصاح ذوق البلاغة التي تجده مع الإبهام، وذلك لذهاب الوهم فيه كل مذهب، وإيقاعه على محتملات كثيرة.

وهذا كقول القائل: "لو رأيت عليا بين الصفين"، فإنه لو وصفه مهما وصف من نجدة وشجاعة وثبات وإقدام وأطال القول في ذلك لم يكن بمثابة ما يترامى إليه الوهم مع الإبهام، وهذا للعارف برموز هذه الصناعة وأسرارها.

وعلى هذا الأسلوب ورد قوله تعالى: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} ٢.

وأبلغ من ذلك قوله تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى، فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} ٣.

فإنه قال في تلك الآية: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} ، فذكر: {الْيَمِّ} ، وهو البحر، فصار الذي غشيهم إنما هو منه خاصة، وقال في هذا الآية: {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} ، فأبهم الأمر الذي غشاها به وجعله عاما وذلك أبلغ؛ لأن السامع يذهب وهمه فيه كل مذهب.

وأما ما جاء من ذلك شعرًا، فكقول البحتري٤:

بعيد مقيل الصدر لا يقبل التي ... يحاولها منه الأريب المخادع٥

فقوله: "التي يحاولها" من الإبهام المقدم ذكره في الآية.


١ سورة الإسراء: الآية ٩.
٢ سورة طه: الآية ٧٨.
٣ سورة النجم: الآيتان ٥٣ و٥٤.
٤ ديوان البحتري ٢/ ٤٦ من قصيدة له في مدح الفتح بن خاقان، مطلعها:
ألمت وهل إلمامها لك نافع ... وزارت خيالا والعيون هواجع
٥ رواية الديوان لصدر البيت هكذا:
مبيد مقيل السر لا يدرك الذي

<<  <  ج: ص:  >  >>