وجيء باللواء الأسود، فركز من المنبر في أعلاه، ونطق لسان حاله، فقال: من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مولاه فأنا مولاه، ولم يكن لسان الخطيب بأفصح بيانًا من لسانه، غير أن هذا يزهى ببلاغ موعظته، وهذا يزهى بعزة سلطانه، ولما ذكرت سمات الخلافة المعظمة أتبعها الناس بالدعاء الذي ملأ المسجد بعجيجه، وسبق الكرام الكاتبون بزميله إلى السماء ووشيجه، وكان اليوم فصلا، والموقف حفلا، وذلك الدعاء فرضا لا نفلا.
ولا ينتهي النصف إلا ما شوهد بالبلد من الآثار العجيبة التي تستلبث العجلان، وتستحلب الأذهان، وتستنطق الألسنة بالتسبيح لله الذي فطر الإنسان، ومن جملة ذلك ما تبوهي في حسنه من البيع والصوامع، ذوات الأبنية الروائع، التي روضت بالزخارف ترويض الأزهار، ورفعت معاقدها حتى كادت النجوم توحي إليها بالأسرار، وما منها إلا ما يقال: إنه إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، ولقد ألان الله لهم الحجارة حتى تخيروا في توسيعها بضروب الاختيار، وجعلوها أعاجيب للأسماع والأبصار، وقيل فيها: هذه روضات جنان لا أفنية ديار.
هذا إلى غيره مما وجد من معبودات القوم الموصوفة بأنها آلة الصلب، اللاتي من ذوات النصب، وأكثر ذلك وجد في المسجد موضوعا، وعلى قبته مرفوعا، فأنزلت على قرونها، واستن بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في طعن عيونها، واستوطن المؤمن مكان الكفور، وبدلت الظلمات بالنور، وقالت الصخرة: الآن جمع بيني وبين الحجر الأسود لخاطب الإسلام، والجمع بين الأختين في هذا الأمر من الحلال لا من الحرام، وقال الأقصى: سبحان الذي أسرى إلي بجنده، كما أسرى بعبده، وأعاد لي عهود الفتح الأول بهذا الفتح الذي أتى من بعده، وعود الذاهب أرجى لدوام أحقابه، وخلود الإنسان لا يكون إلا في مآبه، وهذا هو الخطب الذي جدد للإسلام عهود ابن خطابه١ -رضي الله عنه- إلا أن مستنقذ الطريدة أولى بها من صاحبها، ولئن غصبتها يد غالبة، فقد جاء الله باليد التي غصبتها من غاصبها.
١ يشير إلى فتوح المسلمين في خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه.